بعد 61 عاما من الإستقلال: أي حصيلة للشعب التونسي؟

توصّلت تونس إلى فرض إنهاء الإستعمار المباشر، ولكن لم تخف مثلها مثل بقية الشعوب الفقيرة توقها إلى تحرير إرادتها وكسر كل القيود الّتي تربطها بالتخلف و التبعية و بكل أشكال الاستعمار الجديد الّتي لخّصها بورقيبة في أكثر من خطاب في دعوات

صريحة للأنظمة العربية والمتخلّفة ، إلى الإنصراف إلى العلم والمعرفة و» تغيير الأدمغة « لمجابهة أسباب التخلف والتقهقر والإنحطاط.

و بعد 61 عاما من الإستقلال الّتي تحيي تونس ذكراه غدا ، و بعد ست سنوات من حلم إحداث تغيير جذري (في الإنتظار) يقف التونسي أمام حقائق مريرة ،تثبت أن البلاد تخطو خطوة إلى الأمام و خطوتين إلى الوراء ، وهو ما يعاين تبعاته اليوم على كل المستويات.

ورغم تسجيل بعض المكاسب الّتي تعمل الدعاية الرسمية جاهدة على تضخيمها و إستعراضها للتقليل من حجم المشاكل الحقيقية الّتي يعيشها المجتمع ، فإن سبل التنمية ما تزال تزداد ضيقا وطرق المعالجة لما تزال تتّسم بالإرتجال.

إن مظاهر حرية التعبير و ممارسة الحريات النقابية و السياسية عموما و تشريع النصوص الدستورية و القانونية الجميلة، و«تأمين» حرية المرأة و تحقيق نجاحات عسكرية و أمنية ضد الإرهاب، على أهميتها، لا يمكن أن تعوّض الأمن المعاشي الحقيقي والقضاء التام على مواقع الإرهابيين و تجفيف منابع القوى الظلامية والكيانات المتحدّية للدولة و سلطتها، وتركيز العدالة الّتي يصبو إليها التونسي و تحقيق النمو و الرخاء وتوفير متطلبات التطور و التقدم الإجتماعيين.

إن التشخيص الواقعي للأوضاع يكشف أن الأوضاع الاقتصادية متردية و أن السلم الإجتماعية مهدّدة و أن المؤشرات العامّة لا تُنبئ بخير، وأن البدائل الّتي تطرحها الحكومة لا يمكن الإرتياح إليها، لأنها مبنية على رؤية سياسية بعضها غير واضح و بعضها الآخر خاطئ .

إن عدم وضوح هذه الرؤية ليس بسبب عدم التمكّن من تشخيص الإشكاليات الإقتصادية والتنموية الّتي تواجهها البلاد ، بل تكمن في تصورات متسرّعة وملغومة، لجنوح أصحاب القرار في السلطة إلى الخيارات السهلة الهادفة إلى خيارات الترقيع السريعة لمجابهة الحاجيات الآنية، مثل مزيد الاقتراض لسد حاجيات الإستهلاك، والتفويت في بعض المؤسّسات العمومية لتوفير الموارد الظرفية، و الترفيع في سن التقاعد لمجابهة عجز الصناديق الإجتماعية، وفي الإذعان للمطلبية لمعالجة التوتر الاجتماعي، وغض النظر عن الفساد المالي للعديد من الأحزاب السياسية والجمعيات لضمان الصمت المتواطئ والتهدئة المصطنعة، وفي مهادنة لوبيات التهريب و الفساد للحفاظ على «متنفس» ما توفره التجارية الموازية لتموين الأسواق الشعبية لترضية الفئات الضعيفة والمتوسّطة على حد سواء، وخاصة في تخلّي الدولة بنسق سريع عن دورها، لفائدة لوبيات طفيلية تستغل ضعف المؤسسات المركزية، للاستثراء ولتثبيت سياسة الفساد.

هذه السّمات العامة للأوضاع لم تعد خفية ، لذلك يسيطر التفكّك على المشهد السياسي العام، ونرى الاهتمام يُحوّل من معالجة القضايا الحقيقية والحارقة، إلى متابعة الهوامش والمسائل الخلافية المفتعلة، مثل تلك الّتي تأجّجت في فترة الترويكا، فأصبحت استقالة زيد أو التحاق عمرو بهذا الحزب أو ذاك ، أو بعث هذا الكيان أو ذاك ،أهم من حل أزمة حقيقية في أي قطاع من القطاعات ، و أصبح البحث عن مسرّب تصريح بالفساد أو بقول ، أهم من البحث في الفساد أو في القول ذاته.

هذا التعامل مع الأحداث و هذا الأسلوب في معالجة الأوضاع ،جعل تمشي الدولة لا يرتكز على سياسة واحدة و منهج موحّد، بل على سياسات متعدّدة ، تقابلها معارضات قطاعية متعددة أيضا، لذلك نجد لسياسة التعليم و التربية منهجا معيّنا ولها معارضوها، و لسياسة التجارة منهجا آخر ولها روادها و معارضوها ، و كذلك الشأن للعدل وأملاك الدّولة والشؤون العقّارية و الفلاحة الثقافة والشؤون الدينية و المالية والاستثمار وغيرها.

إن الخيط الّذي كان يربط مخطّط الدولة في كل المجالات كما اتسمت به العشريات الأولى بعد الاستقلال ، لم يعد موجودا ،بل أصبحت البلاد إزاء مخطّطات منعزلة ، تحكمها أهداف مختلفة أحيانا، آيلة إلى التحول إلى لوبيات ستعمل على اقتسام النفوذ ، إزاء سلطة مركزية ضعيفة.

لذلك يقف المتابع للشأن العام في تونس بعد 61 عاما من الاستقلال أمام رقعة تختلط فيها المسالك والمشاهد و يعمّها التذمّر ويكثر فيها «رواد» غير متمرّسين يعالجون الأوضاع يوما بيوم يسيطر عليهم التفكير في اقتسام النفوذ و السلطة أكثر من أي شيء آخر.

رغم هذه اللّوحة السوداوية ، فإن إرادة التجاوز الّتي عرفتها تونس لتحقيق الإنتقال من السلطة المؤقتة إلى السلطة الدّائمة ، تبقي الأمل قائما بأن تبرز إرادة خلاّقة لتجاوز الأوضاع الصعبة و إعادة التوازن «للسفينة المترنحة»...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115