يقول علماء الاجتماع بأن ما يسمى بالفئات العليا في كل مجتمع ،في علاقة بالثروة أو الجاه بأصنافه أو المعرفة ، هي الأقدر على استقراء المستقبل لا لكونها تملك ذكاء ذاتيا غائبا عن الفئات الأخرى بل لأنّ شبكة علاقاتها وارتباطاتها أكثر وأعقد من الفئات الأخرى ممّا يعطيها قدرة على تصور احتمالات تطور المحيطين الشخصي والجماعي..
هذه هي الوضعية «العادية» في كل المجتمعات ولكن ما تعيشه تونس منذ الثورة غيّر كثيرا في هذه المسلمات..فبعد فترة من الأمل الكبير، محفوف بتخوفات جدية من قبل جزء من المجتمع التونسي، عشنا فترات يتنقل فيها التفاؤل من فئة إلى أخرى إلى أن أصبح الغموض هو الشعور الأكثر توزيعا بين التونسيين.
كل ما قلناه لا يعني بالطبع أن التونسيين متساوون كلّهم أمام احتمالات المستقبل.. فما يمكن أن نسميه بتونس الناجحة (مهنيا ..شخصيا..دراسيا..) تواصل في رسم خطط المستقبل ولكن على المستوى الشخصي أو الضيّق فقط..وما نأسف له حقّا هو أنّ جزءا متعاظما من التونسيين الناجحين أصبحوا يهيئون لمستقبلهم بصفة كلية أو جزئية خارج وطنهم وهذا يتضح بصفة جلية عند أبناء الطبقات الميسورة والطبقة الوسطى العليا (المهن الحرة والإطارات والجامعيون..) حيث يتوجهون بأعداد متزايدة لإتمام دراساتهم الجامعية بالخارج وعند جزء هام منهم نية الاستقرار هناك..
نحن أمام التنامي المفزع للحلول الفردية وذلك عند كل فئات المجتمع ..وأحيانا تكون هذه الحلول قصووية وخطيرة على الأفراد والمجتمع كالهجرة السّرية أو الالتحاق بالجماعات الإرهابية أو الارتماء في أحضان الجريمة أو الإدمان على المخدرات أو الإقدام على الانتحار..
تنامي الحلول الفردية سواء كان ذلك في تونس الناجحة أو تونس المهمشة أو تونس ما بين بين إنّما يدل على ضعف الحلم الجماعي وتراجع الإيمان بمستقبل أفضل للفرد بداية ولمحيطه العام ثانية..
هذا ما وصفناه بالانتظار الذي لا يعني في نظرنا غياب الحركة ، إذ يسعى كل واحد ، رغم كل شيء، إلى تحسين ظروف عيشه المادية والنفسية رغم حالة الإحباط عند الكثيرين..
لا ندري بالضبط حجم تأثير هذا الإحساس العام على النشاط الاقتصادي للبلاد ولكن ثمة نوع من الجدلية السلبية الواضحة بين الأمرين..
ولكن كسر هذه الحلقة المفرغة يبقى ممكنا بل وسهلا إلى حدّ ما إذ يكفي أن يرى التونسي تحولا ما في محيطه المباشر (تشغيل احد أقاربه... تحسن الخدمات البيئية... نجاح مدرسي.. تحسن في البنية التحتية) حتى يستعيد الثقة في بلاده وبالتالي في نفسه ..
لا شك أن إنقاذ البلاد ثم النهوض بها يحتاج إلى سياسات عمومية تغيّر من جوهر الأشياء ..ولكن الأمل يحتاج إلى منجزات صغيرة ملموسة..يحتاج إلى عودة الإيمان بالمصعد الاجتماعي .يحتاج إلى ما يسميه فيلسوف الألمان هيغل بالاعتراف وبلغة أكثر بساطة بالتثمين..تثمين المسار الدراسي ..تثمين المكتسبات الحرفية..تثمين الجهد..تثمين الابتكار والاجتهاد والإبداع..فالرابط الجماعي لا معنى له إن لم يكن الفرد معترفا به ومعترفا له..
الاقتصاد ليس فقط أرقاما ومؤشرات ..انه الثقة أولا وقبل كل شيء ..والثقة تبنى على الأمل وعلى الإيمان بأنّ القادم سيكون أفضل من الحاضر والماضي معا..