الضامن الأساسي لحقوق الناس وحرياتهم ، لذلك عوّل الجميع على أن يشهد المجتمع ولادة سلطة قضائية مستقّلة في أحكامها وقراراتها، مدعمّة ببنية أساسية متطورة وبزاد بشري كاف وكفء يضمن العدالة و الإنصاف للجميع على أساس القانون و قيم العدل والمساواة.
لكن ظهر على مر الأيام أن هذا المطمح صعب المنال، إذ تداخلت الأدوار وتفرعت المطامح و تعدّدت السبل في العائلة القضائية، و تدخّل الشأن السياسي في أكثر من مناسبة ليصبح القضاء محل تنازع ومحاولات إحتواء وتوجيه، إلى أن تحوّل إلى مقاطعات تدير الأزمة تلو الأزمة دون أن تصل إلى التوحد ودون أن تقدرعلى تبني مشروع واحد لبناء سلطة جديدة في الدولة، وتترك النمطية الّتي حشرت نفسها فيها والّتي لم تقدر عن التخلي عن عقلية الموظف القضائي الّتي طبعتها لعشرات السنوات.
ما يعيشه القضاء اليوم هو إنعكاس لمخلفات عقلية صعبة التغيير سواء في داخل أفرادها أو في محيطها . فالعائلة القضائية لم تستطع أن تحسم في الأولويات الممكنة و لم تتجمّع من أجل تحقيق تلك الأولويات في مصالحة داخلية تقطع مع الماضي قدر الإمكان . لذلك بقيت متشرذمة رغم وحدة الأهداف و هو ما أثر على أدائها اليومي و على تعاملها مع مختلف المستجدات . و في المقابل لم يلحظ المحيط أي تغيير في الأداء ، ففقد الثقة و إنخرط في الفساد السائد بالفعل أو بالصمت .
في المقابل لم تقبل السلط السياسية و النيابية أن يخرج القضاء عن التوازن بين السلطات و أصبحت متوجّسة من التغوّل ، لذلك كانت دائما وراء أنصاف الحلول الّتي تبقى على الدوام تؤجّل الحسم .
من هنا كانت أزمة المجلس الأعلى للقضاء، الّذي رغم الضمانات الدستورية، لم يحسم أمره و تسبّب ذلك في تعطيل بعث المحكمة الدستورية الّتي كانت مطمحا لأجيال عديدة. وقد أدّى إختلاط الأدوار والمفاهيم ، إلى جعل شن الإضرابات آلية لفرض الحوار أو الحلول ،و هذا ما يؤكّد القول بأن الفائدة ليست في سن قوانين متقدّمة بل المهم هو وضع قوانين بغاية تطبيقها و إحترام أحكامها . فتجربة هيئة القضاء العدلي ، لم تغير النظرة إلى السلطة القضائية في تعاملها مع الملفات الّتي تخص القضاة أنفسهم، وذلك بالخصوص عندما رفضت تطبيق قرارات المحكمة الإدارية، وعندما عبر العديد من القضاة عن عدم تقبّلّهم لحركة القضاة ونقدهم لمقاييسها. كما لم يقع تقبّل موقف رئيس محكمة التعقيب ورئيس الهيئة الوقتية للقضاء العدلي السابق من دعوة المجلس الأعلى للقضاء لأوّل إجتماع له ولعدّة مواقف أخرى الّتي ولئن بدت قانونية فإنها كانت سببا في تعطيل مسار المجلس الأعلى للقضاء.
لذلك يتساءل البعض عن الجدوى من الدعوة إلى الإضراب بين الفينة و الأخرى، وعن سبب عدم قدرة الأطراف الفاعلة في العائلة القضائية على فتح قنوات الحوار البناء والجاد حول وضعية القضاء عموما و حول تجاوز الإشكاليات الّتي تعرقل نشاط المجلس الأعلى للقضاء .
إن كل المبادرات سواء كانت صادرة عن أشخاص أو هيئات أو عن أي هيكل من هياكل الدولة ، سواء لإقتراح حل لتجاوز الأزمة ، أو لسن مبادرة تشريعية، كلها مسائل قابلة للنقاش و يمكن التداول فيها دون شروط مسبقة سعيا لتجاوز المأزق . هذا المأزق الّذي سبق أن أكّدنا أنه ما كان أن يوجد لو لم تحشر بعض الحسابات الضيّقة في مسار المجلس الأعلى للقضاء ، بما في ذلك حشر فكرة التناصف التي ولّدت معادلات مغلوطة و غير متوازنة، وكذلك عدم التنبّه لوضعيات بعض القضاة الّذين كانوا على أبواب الإحالة على التقاعد عند الدعوة إلى إنتخابات المجلس الأعلى للقضاء أو غياب ترشح لإحدى مكونات هذا المجلس .
إن القول بأن السلطة التنفيذية أو بعض الماسكين بالسلطة أو المشاركين فيها ،تعمل على إسترجاع ما فرّطت فيه ضمن القوانين الّتي تمّ سنّها ، لا يمنع من توخّي أسلوب خلاّق في الحوار و تشريك كل الأطراف المعنية بالقضاء في البحث عن الحلول الممكنة و تجنب فرض الأمر الواقع.
إن التجربة الّتي عرفتها تونس في السنوات الأخيرة في المجال التشريعي، كانت ذات «لخبطة» منقطعة النظير، والدليل على ذلك أنّه قلّما نجد قانونا لا يشكو من نواقص أو غموض أو قابل لعديد التأويلات، ولذلك لا يجب التخوّف من أي مبادرة تشريعية إذا إقتضتها الضرورة ،مع إستعمال الحق في النقاش والتعديل بما يضمن سلامة التطبيق و يجنّب مزيد التعطيل . فالوضع القضائي متروك لمصير يثير كل المخاوف ، و هو أمر لا يشجع على الإستثمار ولا على حل العديد من الإشكاليات المتعلّقة بأكثر من شأن تحّل بعضها بطرق «خاصةّ» ومريبة أحيانا. لذلك فإن المزيد من التمطيط ووضع العراقيل و فرض الحلول الأحادية، يؤّدي في النهاية إلى التعفّن ، الّذي لا يخدم في النهاية مصلحة أي كان ...