العامل الثاني هو استغلال الجمعيات و الأحزاب و المنظمات وعدّة تشكّلات أخرى، حالة التسيّب والفراغ لإقتطاع جانب من السلطة وممارستها على طريقتها الخاصّة ثم التمادي في السعي إلى فرض ذلك حتى بعد انتخابات أكتوبر 2014 معتبرة ذلك حقّا مكتسبا لا يمكن لأي كان سحبه منها و هو ما شجّع الأفراد على تحدّي أي سلطة وعلى أي صعيد.
والعامل الثالث هو عامل قويّ الفاعلية وهو الضعف الإقتصادي، العصب الأساسي للدوّلة في التعامل مع حاجيات مؤسسات الدولة في الموارد للإستجابة لمقتضيات التصرّف و التسيير و حاجيات التنمية الشاملة و كذلك حاجيات المواطنين لضمان ظروف العيش العادية ولمجابهة مقتضيات الحياة اليومية.
العاملان الأوّلان ، كانا منطلقا كي تعمّ الرغبة في ممارسة السلطة بكل الوسائل في قراءة خاطئة لما أقرّه الدستور و بقية التشريعات من ضمانات لممارسة الحريات والتمتع بكل حقوق المواطنة، لذلك أصبح قطع الطرق و تركيز مخفضات السرعة العشوائية و منع السلطات الجهوية من العمل و غلق المنشآت الخاصة والعامّة وطرد المسؤولين من مراكز عملهم والإستحواذ على الممتلكات وغيرها من مظاهر الرفض و الإستقواء ،تصرفات ممكنة ومتاحة دون ردع أو عقاب ، بل أصبح كل هذا ، دافعا لفرض حوار غير متوازن و غير طبيعي أحيانا.
و يُضافُ إلى ذلك تفكّك الحزب الأغلبي و تخليه القصري أو الإرادي عن دوره الطلائعي في ممارسة الحكم و تحمّل مسؤوليات اختياراته، و كذلك حلول شخصيات متنفّذة بخلفيات مالية وولاءات سياسية وأحزاب ومنظمات في أكثر من مناسبة، محل السلطة العليا للدولة في اتخاذ المواقف وإجراء المشاورات والإتصالات، وخروج بعض الجهات الأجنبية عن حدود المعاملات الدبلوماسية وحشر نفسها مباشرة في الشأن التونسي الدّاخلي، كل
هذه، عناصر جعلت البلاد بمثابة مقاطعات «تكرّس التفكّك» المؤسّساتي والتشرذم السياسي.
كل هذا كان يقتضي وضع النقاط على الحروف، و هو ما كان منتظرا بعد فترة جس النبض من حكومة «الوحدة الوطنية» ثاني حكومة في الجمهورية الثانية. غير أن التأخر المسجل في الإقدام على حسم التردّد ، أعطى الإنطباع بعجز الحكومة و خوفها من مواجهة مستلزمات مجابهة الأزمة الّتي تعيشها البلاد.
ولكن تواصل التأزم الإقتصادي و«كبح» المؤسسات المالية الدولية في دعمها لتونس وفي مقدّمتها صندوق النقد الدولي ، بتعطيله تسريح القسط الثاني من التمويلات المتّفق عليها ، ومواصلة نقابة التعليم دون وجه قانوني ،في السعي إلى فرض إقالة وزير التربية، والتلويح العلني لوزير الوظيفة العمومية والحوكمة الرشيدة بالإستقالة مّما أدى إلى إقالته، كلّها عناصر أدت إلى «إنتفاضة» رئيس الحكومة يوسف الشّاهد بدفع ودعم من رئيس الجمهورية، وظهوره في آخر حوار متلفز معه بصدد لعب «سياسة الكل للكل»، في خطوة تعدّ حسّاسة لتحديد مستقبل البلاد.
فالخطاب الواضح الّذي خاطب به الشّاهد الجميع مساء الأحد 26 فيفري الجاري، فيه حسم للتردّد الّذي كان يميّز الخطب السابقة الّتي كانت تهدف إلى إرضاء الجميع، و تضمّن معاينة تعكس واقع البلاد وكذلك وعودا واقعية وتحذيرات واضحة.
فأنصاف الكلمات لم تعد مجدية ،لأنّ المعالجة الآنية أصبحت تفرض نفسها لإنقاذ ما أمكن إنقاذه بتوخي سياسة واقعية رغم آثارها الموجعة و ذلك لتجنّب ما يمكن أن يكون أكثر وجعا. و«حكومة الوحدة الوطنية» تشّكّلت من أجل أن تجد الحلول استنادا للقواسم المشتركة التّي تضمّنتها وثيقة قرطاج و بالتّالي فإن هذه الحكومة ليست «إطارا» للترضية، بل يكمن دورها في إعداد الإصلاحات الهيكلية، الكفيلة بتحريك عجلة النمو و الخروج من المأزق الإقتصادي الذي تعيشه البلاد . بالتّالي فإنها مدعوّة إلى إعتماد الحوار الجاد والحد من «الخطب» الواعدة أو المهدئة للخواطر، والإنخراط في سياسة إصلاح عاجلة لوقف التدهور في كل المجالات، و صياغة التصوّرات الجادّة للخروج من الأزمة، الّتي يمكن أن يلمس المواطن نتائجها في مستوى عيشه اليومي.
وبقطع النظر على ردود الفعل الإنفعالية ، فقد بدا أن جميع الأطراف الإجتماعية و السياسية، واعية بحقيقة الأوضاع الّتي هم مطّلعون عليها، الأمر الّذي يجعلهم ملزمين بالفعل في نطاق الموقع الّذين هم فيه و تجنّب التصادم. ولا يمكن لأي كان سواء كان داخل السلطة أو خارجها تجاهل دق نواقيس ساعة الحقيقة ، الّتي تدعوهم إلى المساهمة في البحث عن الحلول البناءة لتخطّي هذه المرحلة الصعبة الّتي تقدمُ عليها تونس.