يخطئ من يعتقد أن الصراع بين نقابات التعليم وبين وزير التربية هو أصل الدّاء وان غياب الطباشير عن بعض الأقسام هو الذي سيؤدي إلى هذه المواجهة التي يخشاها الجميع..
عناصر المواجهة كامنة بالقوة منذ سنة 2014 أي منذ تمكن الرباعي الراعي للحوار الوطني،وعلى رأسه اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية من وضع حدّ للازمة السياسية الخانقة التي عصفت بالبلاد سنة 2013..
فمنذ البداية ورغم ادعاء الجميع الحرص على «الحوار» و«التوافق» لم يكن اتحاد الشغل موافقا على طبيعة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية لكل الحكومات المتعاقبة بدءا بحكومة المهدي جمعة ووصولا إلى حكومة يوسف الشاهد مرورا بحكومة الحبيب الصيد ..وما أجلّ الصراع بين الطرفين هو عدم الشروع في الإصلاحات الجدية وتأخرها ليس إلا..
كل الحكومات المشار إليها اعتبرت أن أزمة البلاد هي بداية أزمة مالية عمومية بحكم التفاقم المشط لكتلة الأجور وفي بعض الحالات لميزانية دعم المواد الأساسية وكذلك للعجز المدمن للصناديق الاجتماعية ممّا دفع البلاد إلى اقتراض خارجي مشط بالإضافة إلى نموّ هش وآلة إنتاجية مكبلة بالبيروقراطية وبترسانة قانونية وإجرائية بالية تعيق تنافسية المؤسسة وإنتاجيتها..
فحلول كل الحكومات المتعاقبة يمكن تصنيفها في خانة الليبرالية الاجتماعية بينما الموقف الطاغي داخل المنظمة الشغيلة هو « الحلول البديلة» فيما يعرف بفضاء العولمة الأخرى (l’altermondialisme) أو بحلول الاقتصاد المدولن (l’économie étatisée) والمناطق الوسطى بين هذين التصورين ضامرة للغاية ولا تكفي لبناء سياسة متكاملة ..
وهذا الخلاف الحادّ في التصورات هو الذي جعلنا ، إلى اليوم، نؤجل كل الإصلاحات الجذرية والجدية التي يستوجبها اقتصادنا العليل بحجة البحث عن توافق كل المؤشرات تفيد بأنه أضحى صعبا للغاية إن لم نقل مستحيلا ..
يضاف إلى هذه الخلافات الفكرية الأساسية خلاف آخر هو البارز الأكثر اليوم وهو في تحديد معنى « التشاركية» التي يبدي الطرفان تمسكا كبيرا بها..
فالتشاركية عند الحكومة هي التشاور في السياسات العامة الاقتصادية والاجتماعية بالأساس بينما التشاركية عند جزء هام من القيادات العامة للاتحاد هي التحاور في السياسات والتشارك في التعيينات وفي التقييمات مع الاحتفاظ بما يشبه حق النقض فيها جميعا..إنها نوع من التسيير المشترك تكون الإدارة فيه للحكومة وحق الفيتو للاتحاد..
وهذا هو جوهر الصراع حول مطلب إقالة وزير التربية ناجي جلول والذي احتدّ اليوم كما لم يحتد من قبل إذ أصبح هذا المطلب مطلب المركزية النقابية بأسرها ورفضه هو موقف الحكومة كاملة وعندما تململ احد الوزراء، عبيد البريكي ، نظرا للوشائج الكبيرة التي تربطه بالمنظمة التي تربى داخلها وتقلد فيها مسؤوليات عليا وجد نفسه خارج اللعبة ولا ينبغي في نظرنا أن يُرى في خلفه السيد خليل الغرياني انتصارا للأعراف ضد الشغالين إذ يعرف الجميع العلاقات الطيبة جدّا بين الوزير الجديد خليل الغرياني والقيادة النقابية ولكن بالإمكان أن تستعمل هذه الصورة لمزيد توتير العلاقات بين الاتحاد والحكومة ..
اليوم قد بلغ هذا الصراع منعطفا جديدا كما قلنا ولكن لسنا بعد أمام حالة « حرب» شاملة لأنها لا تخدم أحدا ولا نعتقد أن الطرفين قد استعدا لها..نحن أمام مناوشات يختبر فيها كل فريق صلابة وتصميم الطرف المقابل ..فلا يخفى على احد أن في الفريقين هشاشات كبيرة وخاصة لدى النقابيين لان التصعيد الكبير سوف يولد حتما ردين عكسيين خطيرين : الأول عند مستهلكي الخدمة العمومية ( الأولياء في وضعية الحال) والثاني قرف جزء من القطاع المستهدف بالتصعيد بدءا بالية الاقتطاع التي تؤثر على ميزانية هؤلاء الأفراد وثانية لان مناخ الاحتقان الدائم لا يلائم جلّ التونسيين ..
فلا ينبغي أن نغتّر بالمغالاة في المناوشات الكلامية .. ولكن إذا تم اتخاذ قرارات تصعيدية قوية (سلسلة من الإضرابات القطاعية المتتالية مثلا أو رفض التحاور مع الحكومة ككل ما لم تستجب لمطالب الاتحاد ..أو الخروج الصريح عن وثيقة قرطاج ..) فعندها سندخل جولة ثانية في هذه المنازلة التي نعلم بدايتها ولا ندري بالضبط ماهي مالاتها..