في حدود الوفاق وضعف فاعلية المؤسسات: برلمان معطل وخطر العدوى قد يمرّ إلى المجالس البلدية والجهوية

لو أحصينا استعمال المصطلحات في بلادنا لقلنا بأن «الوفاق» يحتل صدارة الترتيب إذ أصبح هو المصطلح المفتاح وكأنّه البلسم لكل خلافاتنا ..

ثمّ ألم تنل بلادنا ممثلة في الرباعي الراعي للحوار جائزة نوبل للسلام بفضل الوفاق..

لا جدال لدينا بأن البلاد مازالت تحتاج جرعات هامة من الوفاق لأن المهام المطروحة عليها معقدة وصعبة ولا يقدر فريق واحد سياسي أو اجتماعي أن يقوم بها .. ومازلنا نؤمن بان السير معا ولو بصفة بطيئة أفضل من السير السريع المنفرد..
ولكن الشيء إذا بلغ حدّه انقلب إلى ضدّه كما يقول القدامى .. والوفاق في غير مواضعه يصبح تعطيلا للعمل وعبثا بمصالح الناس..

ما يجري هذه الأسابيع داخل مجلس نواب الشعب خير دليل على ما نقول ..فلقد تأخرنا عن الموعد الدستوري لتعويض ثلث أعضاء هيئة الانتخابات بسنة كاملة..ومازلنا منذ سنة كذلك نبحث عن توافق مفقود من اجل إقرار تنقيح للقانون الانتخابي نقحم فيه كل ما يتعلق بالانتخابات البلدية والجهوية..

سنة كاملة والنواب مختلفون على نقطتين فقط :
مسالة تصويت الأمنيين والعسكريين من عدمها ومسألة العتبة أي الحد الأدنى الذي يجب أن تحصل عليه قائمة انتخابية (%3 أو %2) ليتم احتسابها في توزيع المقاعد..
في النقطة الأولى وجدت النهضة نفسها ضد الجميع وفي النقطة الثانية تشبثت كل الأحزاب ذات الثقل الانتخابي المتوسط أو الضعيف بعتبة منخفضة (بعضهم اقترح في البداية%1)
النقطة الثانية لم تطرح مشكلة خاصة ولكن النقطة الأولى أثارت جدلا سياسيا وقانونيا وعقائديا لم يهدأ بعد.. والإشكال لا يكمن في هذا بل في تعطيل قانون حيوي منذ سنة كاملة من اجل البحث عن توافق تبيّن إلى حدّ اليوم انه مستحيل..
وكما لا يخفى فالقانون الانتخابي قانون أساسي أي أنّ كل فصل لن يمرّ إلا بمصادقة أغلبية أعضاء المجلس النيابي عليه أي 109 من الأصوات ..وهنالك أربع قوى في المجلس لديها القدرة على إسقاط أي قانون أساسي وهي كتلة النهضة وكذلك النداء والكتل الأخرى مجتمعة و «كتلة» الغائبين عن الجلسات العامة..

الواضح أن الأزمة لا تكمن بالأساس في غياب التوافق على هذه النقطة بالذات بل في ارتهان عمل السلطة التشريعية بتوافقات حزبية معقدة ومتغيرة حسب المواضيع والرهانات.. الأزمة تكمن في نظام الاقتراع الذي تبنيناه منذ سنة 2011 والذي يمنع عمليا الحزب الفائز في الانتخابات من أغلبية المقاعد داخل المجلس.. فحركة النهضة قد حصلت سنة 2011 على %37 من الأصوات لكنها لم تفز إلا بـ %41 من المقاعد.. أما نداء تونس ورغم فوزه بـ %38 من الأصوات في تشريعية 2014 فانه أحرز على %39 فقط من المقاعد..

قاعدة الاقتراع على القائمات باعتماد النسبية وأكبر البواقي يمنع الحزب الفائز والذي لم يحرز على الأغلبية المطلقة للأصوات (50 زائد واحد) من التنفيل الضروري الذي يسمح له بأغلبية نيابية معقولة بل يجعله مضطرا في كل مناسبة إلى البحث عن تحالفات بعضها غير طبيعي وحتى إن حصلت هذه التحالفات فهي تبقى رهينة لإرادات القيادات الحزبية المختلفة ولحساباتها الخاصة وهكذا لأننا أردنا قانونا انتخابيا يعطي الأولوية للتعددية وللقائمات الصغرى وهذا جيّد في حدّ ذاته ، ولكنه يمنع الأغلبية من أدوات الحكم في كل نظام ديمقراطي وبالتالي يعطينا مجلسا تشريعيا لا يتحرك إلا إذا ما تحركت كل الآلات الحزبية الفاعلة في نفس الاتجاه وإلا فالعطالة هي مآل مشاريع القوانين التي لا ترضي الجميع في نفس الوقت ..

لنفترض دائرة انتخابية بعشرة مقاعد وان هنالك قائمة حصلت على %47 بينما حصلت ست قوائم أخرى على %8 لكل واحدة منها فقط وتقاسمت البقية %5 الباقية ..

في كل بلاد الدنيا تحصل القائمة الأولى على أغلبية المقاعد ولو اعتمدنا على نظام النسبية بأكبر المعدلات لحصلت هذه القائمة على خمسة مقاعد.. ولكن في نظام الاقتراع التونسي تحصل هذه القائمة فقط على أربعة مقاعد وتحصل الست الأخرى على مقعد كل واحدة منها.. أي لو تكتلت الأحزاب المنهزمة لأمكن لها افتكاك الانتصار العريض والواضح للقائمة الأولى !!

لاشك في ايجابيات نظام الاقتراع هذا ودفعه إلى نوع من التوازن بين الحكم والمعارضة ولكن عندما نبالغ فيه نصبح مضادين لإرادة الناخبين .. فالناخبون قد عاقبوا النهضة سنة 2014 وأعطوا الفوز لقائمات نداء تونس ولكن نظام الاقتراع قد قلص كثيرا من هذه الرسالة السياسية حتى كاد معه المنهزم يكون هو المنتصر الفعلي..

الأشكال هو أننا اعتمدنا نفس نظام الاقتراع للمجالس البلدية والجهوية أي أننا سننقل عدوى العطالة والبحث عن توافقات مستحيلة إلى كل المجالس البلدية والجهوية وقد نصيب بالشلل نصفها أو يزيد..

الوفاق ضروري للبلاد والتوافق على الثوابت الوطنية الكبرى مسألة لا يماري فيها احد ولكن شّل المؤسسات التمثيلية من مجلس نواب الشعب إلى البلديات فالمجالس الجهوية غدا والمجالس الإقليمية بعد غد لا يفيد الديمقراطية في شيء،بل يجعلها لعبة بين أيادي القيادات الحزبية تشتغل وفق مفهومها الخاص للزمن وللمصلحة العمومية..

نعلم جميعا بأن ثقة التونسيين مهتزة للغاية في السياسيين ولكن لكي نحاسب السياسيين بإنصاف ينبغي أن نعطي للفائزين منهم انتخابيا الإمكانية الفعلية للحكم وإلا نكون كالمعرّي ألزمنا أنفسنا بما لا يلزم..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115