فقد وضع يوسف الشاهد برنامج عمل حكومته (والتي يأمل أن يتواصل عملها إلى نهاية العهدة الانتخابية أي أواخر سنة 2019) تحت عنوان وحيد : الإصلاح والإصلاح ثم الإصلاح..
والهدف هو تحقيق النمو الاقتصادي كمدخل وحيد للتنمية وللتشغيل..
وتحدث رئيس الحكومة لأول مرة عن فلسفته الاقتصادية والاجتماعية..فهو لا يتبنى الليبرالية الكلاسيكية وليس من هواة الاقتصاد المدولن (Economie étatisée) إنه من أنصار اقتصاد السوق الاجتماعي ومن دعاة إعادة تحديد وظيفة الدولة فهي من هنا فصاعدا ليست مشغلة إلا في حالات الضرورة القصوى..وليست منتجة في القطاع التنافسي بل مهيئة وموفرة لشروط التنمية من بنية تحتية وتمويل عمومي للنشاط الاقتصادي وراعية اجتماعية لضعاف الحال..
ولهذا فالدولة تفكرفي بيع نصيبها من رأس مال المؤسسات التنافسية كما أنها قد لا تحتفظ في سلة القطاع العام إلا بالمؤسسات ذات البعد الاستراتيجي إما للدولة أو للمواطنين..
وأراد يوسف الشاهد أن يقول بان البلاد لا تخشى المنافسة وهي لن تلجا إلى إجراءات حمائية متشددة ومن ذلك إعلانه عن الشروع في الاستعداد للسماء المفتوحة خدمة للسياحة..
يوسف الشاهد براغماتي ويعلم جيدا أن نجاحه لن يكون بإرضاء النخب السياسية بل بتحقيق وعوده على ارض الواقع وهو لذلك يطالب مجلس نواب الشعب بالتسريع في المصادقة على مشروع قانون الطوارئ الاقتصادية حتى يتم استحثاث نسق انجاز المشاريع المعطلة فمشكلة تونس لا تكمن في إيجاد التمويلات بل في القدرة على تحويلها بسرعة إلى إنجازات ..
وبنفس البراغماتية يدعو يوسف الشاهد التونسيين المقيمين بالخارج أو الذين لديهم أموال بالخارج إلى الاستثمار في بلادهم(قد يكون ذلك بواسطة حساب بنكي بالعملة الأجنبية)..
كل هذا لإستحثاث الاستثمار ولدفع عجلة الاقتصاد من اجل خلق مواطن شغل في القطاع الخاص أو التضامني مع دعم الدولة بواسطة برامج اجتماعية واقتصادية من صنف «عقد الكرامة» في التشغيل وصناديق لمساندة باعثي المشاريع الصغرى..
بطبيعة الحال يمكن أن يناقش رئيس الحكومة من الناحية الإيديولوجية حول ملاءمة اقتصاد السوق الاجتماعي لتونس من عدمه.. ويقيننا بان جزءا من المعارضة سيعتبر أن خطاب الشاهد لم يأت بالجديد وانه يقدم لمشاكل تونس نفس الوصفات القديمة..ولكن يبقى النقاش قائما : هل من حلول أخرى على مستوى التوجه العام للدولة؟ هل يمكن لبلادنا ألاّ تنخرط في العولمة الرأسمالية الحالية مع إكراهاتها ومع فرصها كذلك؟
ولكن هذا النقاش النظري،على أهميته، لا يجيب عن لب السؤال وهو هل بإمكاننا، على افتراض نجاحنا في إعادة الحيوية لاقتصادنا أن نستجيب،ولو بعد سنوات، لمطالب شبابنا وأهالينا في المناطق المهمشة؟
هل بإمكان خطاب النجاح والتفاؤل أن يكون هو خطاب الأمل لهذا الثلث المعطل من البلاد؟
صحيح أن رئيس الحكومة قد خاطب كل التونسيين ولاسيما منهم من يعانون اليوم مشاكل التهميش بكل أبعاده (فقر..بطالة..ضعف المرافق العمومية وخاصة التربوية والصحية) ولكن يوسف الشاهد تحدث إلى هؤلاء التونسيين وهو في احد أهم معاقل النجاح والتفوق والامتياز..
الرسالة جميلة ولاشك ولكن ما أبعد الغالبية الساحقة من شباب الجهات المحرومة عن مدارج المعهد التحضيري للدراسات العلمية والتقنية (IPEST) .
وعندما قال يوسف الشاهد أن نصف أبناء وبنات هذا المعهد العالي هم من الجهات الداخلية فهذا دليل إضافي على أن مصطلح «الجهات الداخلية» غير دقيق وغير ملائم..لان التهميش الذي ينبغي أن تقاومه كل سياسة عمومية جدية لا ينحصر في مناطق جغرافية بعينها بل هو في كل مكان وإن كانت نسبته في الجهات الداخلية ارفع ولاشك..
وقد يلتحق اليوم احد أبناء أو بنات المهمشين بأفضل المعاهد والجامعات ولكن يبقى هذا الاستثناء الذي يؤكد القاعدة لا لان أبناء المهمشين اقل ذكاء أو قدرة على التفوق بل لان الظروف الحياتية والعائلية والمدرسية والمحلية....هي التي تقوم عائقا يكاد يستحيل تجاوزه لكي يرتقي أبناء ثلث التونسيين إلى أعلى مراتب التفوق والعرفان..
فعلى عكس يقين راسخ عند أهالي «المركز التونسي» لم تكن المدرسة التونسية منذ الاستقلال إلى اليوم مدرسة تكافؤ الفرص ولكن اللاتكافؤ قد عرف منعرجات خطيرة وراديكالية منذ ثلاثة عقود على الأقل قضى بصفة شبه نهائية على ما بقي من المصعد الاجتماعي وأضحى التفوق المدرسي، في غالبيته يتأسس، على المستوى الاجتماعي وخاصة الثقافي للأسرة ودور التميز الفردي فيه لم يعد هو المحدد..
ومع مرور كل سنة يتفاقم هذا اللاتكافؤ الأصلي فيخلق التهميش تهميشا إضافيا وتبتعد عن أفق هؤلاء الشباب إمكانية تغيير أوضاعهم المادية والاجتماعية بالاعتماد فقط على تفوق مدرسي حرموا لعقود من توفير شروطه الضرورية الدنيا..
لاشك لدينا بأن الإصلاحات التي أشار إلى عناوينها الكبرى رئيس الحكومة هي إصلاحات لا مناص منها وأن التمسك بنظريات بالية لا ولن يكون هو الحل لا لبلادنا ولا لغيرها من البلدان وان العمل والمثابرة والمبادرة الفردية وخلق الثروة وترفيع الإنتاج وتحسين الإنتاجية كل هذه العوامل ضرورية لإعادة تنشيط اقتصادنا ولخلق الثروة والقيمة المضافة وبالتالي النمو هو الشرط الأساسي لكل تنمية ممكنة وأنه ينبغي أن نراهن على أبنائنا المتفوقين وعلى نجاح مؤسساتنا الاقتصادية .. ولكن هل يكفي هذا التصور البراغماتي، على افتراض حسن تطبيقه، من الإجابة على السؤال المحير : كيف نحدّ من التهميش ونجعل من مناطقه فرصا جديدا للخلق والابتكار ورفاه الحياة؟
ماهو الحلم الممكن الذي نريد اقتراحه على أهالينا وشبابنا في مناطق التخوم؟ عقد الكرامة؟ مشروع صغير جدا قد لا..يغني صاحبه من الكفاف؟
صحيح بأن النمو المرتفع (فوق 6 %) إذا ما استمر لفترة طويلة دون نزول يسهم بدرجة كبيرة في إخراج فئات هامة من أهالي التخوم من البطالة والفقر ولكن النمو المرتفع لا يحد لوحده من اللاتكافؤ بل يفاقمه بسرعة تفوق سرعة النمو ذاته وتلك جدلية المركز والأطراف الشبيهة بنظرية المفكر الاقتصادي المصري الكبير سمير أمين في «النمو اللامتكافئ»..
للإنصاف نقول بأننا هنا أمام معضلة تتجاوز الحكومة والدولة حتى النخب كلها ..إننا كتونسيين أمام اختيار حاسم: فإما أن نسعى إلى نمو اقتصادي ذي بعد اجتماعي ولكنه يفاقم الفوارق ويفاقم معها النقمة الاجتماعية أو أن نعمل على معالجة جذرية للفوارق الاجتماعية غير العادلة ..أي معالجة لا تصادر التفوق والنجاح والثروة باعتبارها عدوة للعدالة بل تجعل من التفوق والنجاح والثروة أفقا متاحا لكل التونسيين..
قلنا بأننا أمام اختيار مجتمعي مصيري لان كل سكان المركز بدءا بالمتنفذين وأصحاب الجاه والسلطة والثروة وصولا إلى أبسط الأجراء والموظفين..أي أكثر من نصف المواطنين..هؤلاء كلهم، بنسب متفاوتة ولاشك يمثلون «المركز» بالنسبة للثلث الذي يشكو من تهميش حاد..
يبدو أننا جميعا لم نع هذه الحقيقة ولم نع بعد أن رفاهيتنا النسبية الحالية إنما هي نتيجة غير متكافئة بين كل التونسيين..
نحن لا ندعو بطبيعة الحال إلى تقاسم الفقر فهذا لا معنى له ولا يمكن أن يمثل حلما لأحد..
نحن ندعو إلى تقاسم النجاح القادم والثروة القادمة والرفاه القادم..إذ يبدو لنا أن «التهميش» هو بحد ذاته فرصة لتنمية مختلفة لا في فلسفتها أي لا في جوهر علاقات الإنتاج بل في طرق توزيعها أي في خلق قاطرات النمو البشرية (أصحاب العمل والكفاءات التقنية والعلمية والإدارية العليا) في كل مكان وخاصة في قلب مناطق التهميش..
فلو جعلنا من كل ولاياتنا الداخلية ومن بعض الولايات الساحلية أيضا قاطرات نمو تسير بوتيرة أسرع من المعدل الوطني لساهمنا في خلق نمو ورفاه عام لا ينقص شيئا لأهل المركز بل بالعكس يزيدهم رفاهية وقدرة شرائية ومحيط حياة أفضل ولكنه يقلص بصفة إرادية في البداية ثم آلية فيما بعد مستويات الرفاه في كامل البلاد..
وما نقترحه قد أقدمت عليه بلدان عدة وهو حالة معيشية في جل دول اروبا الغربية حيث يكون مستوى عيش أهل القرى والمدن الداخلية متناسبا مع مستوى عيش المدن الكبرى والعاصمة إن لم يكن أفضل في أحيان عديدة..
هذا يتطلب بطبيعة الحال بألا يكون العمل الهش حتى وإن سمي عقد الكرامة- هو الأفق الوحيد لمئات الآلاف من شبابنا..
ولكن قبل أن نكون قادرين على خلق حلم جماعي جديد لابد من تغيير جذري في المفاهيم الأساسية المهيمنة علينا اليوم سواء كان ذلك عند أهل الحكم أو المعارضة..
لابد أن ننظر إلى وضع التهميش كفرصة تنموية للبلاد ولثرائها لا كمشكلة مزمنة علينا ترضيتها..
ففي كل هؤلاء المحتجين أو الذين يرغبون في الهجرة السرية أو المتمردين على أوامر المركز..في كل هؤلاء طاقات هائلة ضخمة لكن منظوماتنا العمومية كلها قد أهدرتها..
صحيح انه ليس من دور الدولة أن تكون منتجة لبضائع وسلع في السوق التنافسية ولكن من دور الدولة اليوم أن تنتج طبقة جديدة من نساء ورجال الأعمال في تونس التخوم وان تجعل التفوق والامتياز بداية من المدرسة واقعا ملموسا في هذه المناطق بالذات..
وأمام هذا الحلم تتهافت كل عناصر مخيال المركز حول التخوم : إذ لا وجود لشخص على وجه البسيطة لا يعشق عملا ينجز من خلاله ذاته.. وليس له طموح في التفوق والامتياز، الموجود فقط هو منظومات تمنع الناس من هذا لحلم ليس إلاّ...