والغريب هنا هو استعداد بعض المنحرفين العنيفين المؤدلجين جهاديا بصفة حديثة إلى الإقدام على عمليات إنتحارية..
نقول غريب إلى حد ما لأن النموذج الأصلي للسلفي الجهادي الإرهابي مختلف إلى حد ما وهذا ما لاحظناه بوضوح في الأجيال الأولى لتنظيم القاعدة الإرهابي..
لقد كانت المرحلة الأولى تتمثل في الاقتناع العقائدي بالمنهج السلفي الجهادي.. وهذا كان يأخذ وقتا طويلا نسبيا.. ثم يتم الإعداد الحربي والنفسي لهؤلاء العناصر ليقوموا بعمليات إرهابية بأصنافها المختلفة من الهجومات المباغتة ضد أهداف معينة إلى القيام بعمليات انتحارية وهذا كان يستدعي من الإرهابي قبولا مسبقا بالموت...
هذا هو إجمالا الصنف الأصلي من الإرهابي السلفي الجهادي.. فما يُسمى بمسار الراديكالية كان في الماضي القريب مؤسسا على عمل تمهيدي عقائدي ولم يكن جل هؤلاء الإرهابيين منحدرين من عالم الجريمة العنيفة بل من أبناء المدارس والجامعات دون ماضي منحرف معروف...
اللقاء بين عالمي الإرهاب والجريمة العنيفة حصل في جل سجون العالم عندما احتك هذان العالمان ببعضهما البعض وعندما وجد الإرهابيون المسجونون ضالتهم في هذه الشريحة الحاملة لحقد دفين ولعنف داخلي ضد المجتمع وضد الذات أيضا...
هنا نحن أمام مسار مختلف للراديكالية الإرهابية.. فلقد بدأ مسار الراديكالية في عالم الجريمة العنيفة ثم يجد منتهاه وغايته التفسيرية في عالم السلفية الجهادية الإرهابية المعولمة... فالعنف الذي كان يؤدي إلى السجن أصبح يؤدي، عند معتنقيه، إلى الجنة...
وأصبح المنحرف يرى في نفسه «جنديا» في سبيل غاية تتجاوزه ولكن الطريق الجديد الذي يقترحه عليه منظرو الإرهاب الجهادي لا يمنعه من أي عمل عنيف كان يقدم عليه بل يوفر له إمكانيات لوجستية إضافية تجعل من حياته – القصيرة حتما – أداة مستمرة لهذا الإرهاب الجهادي المعولم..
وتشير بعض الدراسات والتقارير إلى أن عنف هذا الصنف من الإرهابيين في حالات عديدة هو أشرس بمرات من عنف العقائديين وإن كان الاثنان قد توغلا كثيرا في مناطق التوحش والبربرية...
التلاقي بين هذين العالمين حاصل كذلك في بلادنا وإن لم يؤد إلى الآن – حسب ما نعلم – إلى تجنيد هام للمنحرفين العنيفين في الصفوف الإرهابية الأولى ولكننا أمام مسار عام والمهم هنا هو أنه بالإمكان التوقي بنسبة كبيرة منه شريطة أن تكون لنا سياسة سجنية وتأهيلية فاعلة وواضحة...
سبق وأن قلنا بأن الفضاء الوحيد الذي يلتقي فيه هذان العالمان هو الفضاء السجني الذي يسمح في بعض مستوياته باختلاط سجناء الحق العام بالمتورطين في التنظيمات الإرهابية...
وهنا الفصل بين هذين العالمين ضروري ولكن أحيانا يتم اللقاء قبل اللحظة السجنية في الحي أو في العائلة ويسجن المنحرف العنيف وقد بدأ في الاقتراب من عالم الإرهاب السلفي الجهادي المعولم وهذا هو الخطر الداهم لأنه يعسر التعرف بصفة قبلية على هذه العناصر قصد عزلها عن مجموع السجناء...
لقد ركزنا كثيرا في تونس على علاقة الإرهاب بالتهريب وهذا صحيح وجيّد ولكن لم نهتم بما فيه الكفاية بعلاقة الإرهاب بالإجرام العنيف وهنا نحن أمام مخزون ضخم بإمكان الإرهاب اختراقه بيسر...
إن الحرب على الإرهاب تقتضي الانتباه الجيد لهذه الحروب الخفية الحاملة لمخاطر جدية لا بد من معالجتها بالحكمة المطلوبة قبل أن نصاب فيها بمقتل...