حول أزمة المالية العمومية في الأفكار «الجيّدة»/ الخاطئة لجلّ السياسيين

اليوم لم يعد أحد يناقش في جدية وعمق أزمة المالية العمومية التي تعيشها بلادنا والتي ستبلغ ذروتها سنة 2017 الى درجة أصبح معها إعداد ميزانية مقبولة للدولة أمرا من قبيل شبه المستحيل...

والمالية العمومية في كلمات معدودات تتكون من عناصر ثلاثة: انفاق ومداخيل والفارق بينهما يُحلّ بالاقتراض...

والتوصيف الذي لم يعد يختلف فيه اثنان ولا يتناطح فيه سياسيان هو أن انفاق الدولة في تصاعد مستمر بينما نمو مداخيلها محتشم للغاية وهذا ما جعل مديونيتنا تقفز في ست سنوات من 40 % إلى 63 % من الناتج الإجمالي الخام ليصبح حجم مديونيتنا 55 مليار دينار بعد أن كان 25 مليار دينار عندما انطلق المسار الثوري في تونس في نهاية 2010...

قلنا بأن الوضع متأزم بلغ مداه هذه السنة وقد ترجمت عنه الميزانية الافتراضية التي تركتها حكومة الحبيب الصيد بحجم نفقات ناهز 34٫5 مليار دينار وبمداخيل (جبائية وغير جبائية) قدرت بـ 21٫5 مليار دينار ممّا يجعلنا - دوما - نظريا - محتاجين لاقتراض ما يناهز 13 مليار دينار (نعم هكذا !!) ولا ينبغي أن يكون المرء حائزا على جائزة نوبل في الاقتصاد لكي يعلم بأن الحل الوحيد يكمن في التحكم في الانفاق العمومي (وخاصة في ميزانية التصرف) وفي ايجاد موارد اضافية للدولة...

وهذا التوصيف حاصل حوله اجماع بين أهم أطراف العملية الاقتصادية في البلاد: الحكومة واتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة... ولكن تبقى خلافات هامة حول مجالات ترشيد الانفاق العمومي وكذلك حول مداخل الموارد الاضافية للدولة...

الحكومة الحالية اقترحت فكرتين أساسيتين: ترشيد الانفاق بتأجيل الزيادة في الأجور في الوظيفة العمومية (اقتصاد بـ 900 مليون دينار) والترفيع في الضريبة على الدخل بالنسبة للشركات بـ 7٫5 ٪ (ربح بحوالي 900 مليون دينار) وكل هذا مع تأجيل سداد القرض القطري (حوالي 1125 مليون دينار) بالاضافة إلى جملة من التدابير الجزئية الأخرى...

ولكن مقترح الحكومة لم يجد قبولا من طرف أهم أطراف الانتاج وكذلك من قبل عدد من الأحزاب السياسية والهيئات المهنية... ويمكن أن نجمل أهم انتقاد وجه لمشروع قانون المالية الذي قدمته حكومة يوسف الشاهد بأن الدولة تبحث عن موارد اضافية عند الطبقة الوسطى والاقتصاد المنظم وتركت الأموال الهائلة في الاقتصاد الموازي دون مساس... وهذه الأموال التي يمكن أن يدرها الاقتصاد الموازي لو كانت هنالك سياسة جدية ضد التهريب والفساد لأغنتنا عن كل تقشف وعن كل اقتراض كذلك... بل وذهب بعض السياسيين إلى القول بأن سياسة حازمة تجاه التهريب والفساد بامكانها توفير 15 مليار دينار لخزينة الدولة!! كما اقترح بعضهم تفاوضا مباشرا مع الدائنين يسمح لنا بنوع من اعادة الجدولة مع مدة اعفاء من الدفع لمدة ثلاث سنوات حتى يتعافى اقتصادنا ويعود قادرا بعد ذلك على سداد الديون دون اللجوء إلى سياسة تقشفية...

• عندما نجيل النظر في كل الاعتراضات على المشروع الحكومي - وبعضها فيه وجاهة لا تخفى - نجد أن هنالك اجماعا بأنه على الدولة جلب ما ينقصها من مال من الاقتصاد الموازي ومن التهريب تحديدا وذلك باتباع سياسة ارادية وحازمة لمقاومة هذه الآفة...
وان كان لا يعارض عاقل واحد حريص على مصلحة البلاد بضرورة شن حرب لا هوادة فيها على الفساد وعلى التهريب ولكن السؤال هو: هل نجد في هذه الحرب الضرورية اجابة جدية عن معضلة المالية العمومية لسنة 2017؟

نذكر كلّنا المداهمات على مخازن التهريب التي حصلت خلال الأيام الماضية في عدد من ولايات الجمهورية ونضيف اليها - مداهمات مخازن السجائر بنهج الملاحة بالعاصمة فالكميات المحجوزة فيها بلغت في كل هذه العمليات زهاء خمسة مليون دينار...
لنفترض أن هنالك حكومة حديدية قادرة في تونس على القيام بعملية من نفس هذا الحجم مرة كل أسبوع، وهذا كثير، فهذا سيمكّن الدولة من حجز 250 مليون دينار سنويا أي ربع مليار دينار من البضائع المهربة ... ولكن كيف نحوّل هذا المحجوز إلى مداخيل إضافية للدولة؟ فهل ستقوم مصالح الدولة ببيع سلع مزيفة؟! سيُقال لنا بأنه على مصالح الأمن والديوانة مداهمة مخازن العملة... وهنا الصعوبة تتضاعف مئات المرات لأن تخزين السلع ليس كتخزين العملة ... ولا ندري كيف ستتمكن أجهزة الدولة من حجز مليارات الدينارات الموعود بها في حين أنها لم تتمكن خلال ست سنوات من وضع يدها إلا على بعض مليارات من المليمات..

ثم لنفترض أن الدولة ستضع يدها أسبوعيا على ما يعادل 5 مليون دينار وهذا كثير بكل المقاييس أي ربع مليار دينار في السنة ... فكيف ستقحمه في مواردها؟! كغنيمة للحرب على التهريب؟! وحتى لو تمكنت من تجاوز كل الاشكاليات القانونية والأخلاقية (تبييض الأموال) فالدولة لن تجني من حربها الشعواء بصفة مباشرة الا مبالغ بعيدة كل البعد عن احتياجاتها التي تعد ببعض مليارات الدنانير...

النتيجة الوحيدة الجدية لحرب ضروس على التهريب هي اضطرارا مستهلكي هذه السلع ( سجائر - ملابس - مواد غذائية - بنزين - عجلات مطاطية - آلات كهرومنزلية ...) إلى الالتجاء الى السوق المنظمة وهذا سوفر بعض المداخيل الجبائية للدولة عبر الأداء على القيمة المضافة وعبر الضريبة على الشركات وكذلك الضريبة على الأشخاص الطبيعيين...

فإن سحبنا من سوق التهريب سلعا بقيمة 250 مليون دينار (أي حوالي 1 ٪ من مجموع السلع المهربة خلال سنة واحدة) وافترضنا أن المواطنين سيقتنون بمثل هذه القيمة من السوق المنظمة فالدولة قد تجني 60 أو 70 مليون دينار على الأقصى كضرائب مباشرة أو غير مباشرة...

لا نقول كل هذا لكي نقلل من أهمية الحرب على التهريب... فهذه الحرب كما أسلفنا ضرورة حيوية لبلادنا ولأمننا ولصحتنا العمومية ولاقتصادنا... نقول فقط بأن....

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115