ذكرى 17 ديسمبر: صراع السرديات ومعنى الثورة

تحلّ اليوم الذكرى الخامسة عشرة للحدث الذي شكّل

شرارة الثورة التونسية، حين أقدم محمد البوعزيزي على إحراق نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد في 17 ديسمبر 2010. وهو التاريخ الذي أقرّه رسميا الرئيس قيس سعيّد للاحتفال بالثورة، باعتباره عودة إلى “عمقها الشعبي” الذي سلب، وفق هذه القراءة، يوم 14 جانفي 2011، تاريخ سقوط النظام.

هذا الاختيار لم يمرّ دون جدل. فالسردية الرسمية، القائمة على التمييز بين “الشرارة” و“السقوط”، أعادت فتح النقاش حول اللحظة الحقيقية للثورة التونسية، وكشفت توترا عميقا بين الذاكرة باعتبارها تجربة جماعية مفتوحة ومتعددة، والسردية الرسمية بوصفها قراءة مغلقة، وبين الثورة كمسار اجتماعي طويل ومعقّد، والثورة كحدث مكتمل المعنى يمكن اختزاله في تاريخ بعينه.

ورغم ما يحمله 17 ديسمبر من قيمة رمزية لا يمكن إنكارها، فإن الاحتفاء الرسمي به وحده يثير نقاشا سياسيا واسعا، يطرح تساؤلات حول دلالات اختيار السلطة لهذا اليوم بالذات. هل يتعلق الأمر بمجرد تصحيح تاريخي؟ أم أن وراء هذا التحديد أهدافا سياسية، من بينها إعادة صياغة الرواية التاريخية، أو استخدام الحدث كأداة لإعادة تأكيد المشروع السياسي القائم، أو توظيف الرمزية الثورية لصالح شرعية بعينها؟ خاصة وأن السردية الرسمية، مقابل تثمين 17 ديسمبر، قدّمت 14 جانفي بوصفه تاريخ “الالتفاف على الثورة” من قبل نخب وسمت بخيانة الشعب.

ومع ذلك، فإن هذه المحاولات لا تفرض نفسها بشكل نهائي، لأن الذاكرة الجماعية ليست نصًا رسميًا ولا سردية موحّدة، بل هي شبكة معقدة من الرموز والقصص والممارسات التي تمنح معنى للتجارب الجماعية، وتتشكّل خارج حدود القرار السياسي وحده. وهو ما احدث جدلا ينقل الحدث من بعده الطقوسي والرمزي إلى بعد أعمق، يتعلق بكيفية قراءة الثورة وفهمها جماعيًا.

فاختيار التواريخ والرموز لا يقتصر على التأريخ، بل يشكّل أداة لتشكيل الوعي الجماعي، سواء عبر إعادة صياغة السردية أو عبر هندسة الذاكرة. في هذا الإطار، لا يمكن النظر إلى محمد البوعزيزي باعتباره مجرد حادثة فردية. فقد تحوّل إلى رمز لانفجار تراكم طويل من التهميش وانسداد الأفق أمام فئات واسعة من التونسيين. ورغم تحوّل فعله إلى أيقونة سياسية، فإنه لا يمكن فصله عن السياق التاريخي والاجتماعي الذي أنتجه. فاختزال الحدث في لحظة أو “شرارة” فقط يغفل تعقيدات الواقع الذي سبق الثورة وتلاها من تحولات سياسية، وصراعات، وخيارات اقتصادية واجتماعية، وما رافقها من خيبات أمل. فالثورة لم تكن فعلا لحظيا، بل مسارا طويلا ومعقّدا تداخل فيه الاحتجاج الشعبي مع التحولات السياسية، وتشكلت حوله ذاكرة جماعية متحركة.

هذا الاختزال في السردية الرسمية، رغم أهمية الحدث، يفرض سؤالا جوهريا حول العلاقة بين الثورة والذاكرة، هل تقرأ الثورة كلحظة واحدة مكتملة، أم كمسار تاريخي طويل؟.و هنا تبرز مسألة أساسية، وهي أن الذاكرة الجماعية ليست حيادية، بل تصاغ داخل أطر اجتماعية وسياسية محددة، وتخضع لموازين القوة داخل المجتمع. ومن هذا المنطلق، يظهر الصراع حول تأويل الثورة، من يملك حق تعريفها؟ من يحدّد بدايتها ونهايتها؟ ومن يحتكر معناها السياسي والأخلاقي؟

في هذا السياق، تكتسب لحظة 17 ديسمبر دلالتها العميقة، لأنها لم تكن حدثا عابرا، بل كشفت عن انفجار بنيوي داخل المجتمع. انفجار في علاقة الدولة بالهامش، وفي مفهوم الطاعة الاجتماعية، وفي معنى الكرامة. لذلك يصبح الحدث أكثر من مجرد بداية رمزية، إذ يشير إلى تراكم طويل من التهميش والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية الذي كان ينتظر لحظة قادحة لينفجر.

لكن الاعتراف بهذه القيمة التاريخية لا يمنع من مساءلة الطريقة التي يعاد بها إدراج هذا التاريخ في السردية الرسمية اليوم. فما يجري ليس مجرد خلاف حول التواريخ، بل صراع بين تصورين للثورة: تصور يرى فيها لحظة احتجاج اجتماعي يمكن استدعاؤها لتأسيس مسار سياسي جديد، وآخر يعتبرها مسارا تاريخيا مفتوحا بلغ ذروته بسقوط النظام، ولا يمكن اختزاله دون الإخلال بمعناه العميق.

من هنا، يتحول 17 ديسمبر إلى مرآة تعكس أسئلة تونس المؤجلة: سؤال الشرعية، وسؤال العدالة، وسؤال المعنى. وهو تذكير بأن الثورة ليست حدثا يختزل أو يحتفى به فقط، بل مسار يساءل باستمرار. فالقوة الحقيقية للذاكرة لا تكمن في تثبيتها داخل سرديات مغلقة، بل في قدرتها على فتح النقاش، وإبقاء التساؤل حيا في الحاضر والمستقبل.

الثورة، بهذا المعنى، ليست تاريخًا منتهيا، بل مسارا مفتوحا يتطلب مراجعة دائمة ومشاركة مجتمعية واعية، بعيدا عن الرموز المعزولة والقراءات الأحادية

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115