أنه تجاوز حالة الفراغ الشامل السياسي والاستراتيجي التي عرفها منذ أن فرض عليه وقف حرب الإبادة على قطاع غزة، تحت ضغط الرأي العام العالمي وتداعيات إنسانية لم يعد ممكنا تبريرها حتى من قبل حلفائه. فاليوم أعاد توجيه أدوات الحرب التي لم تسحب من الميدان نحو هدف آخر: فرض أمر واقع جديد على الأرض، عنوانه الأبرز الضم الزاحف لأراض فلسطينية، بما يجعل فكرة الدولة الفلسطينية مجرد وهم، مستفيدا من انشغال الوسطاء الدوليين بمسألة نزع سلاح المقاومة.
الاحتلال الذي خضع شكليا للضغوط الأمريكية وقبل باتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، سارع إلى ترتيب خطوته لما بعد الحرب، مستمرا فيها بوسائل أخرى. فمنذ الأسابيع الأولى للهدنة، تكثفت القرارات الإدارية والعسكرية للسلطات القائمة بالاحتلال في الضفة الغربية، وتنوعت بين توسيع رقعة المستوطنات، وشرعنة البؤر العشوائية، ومصادرة مساحات مصنفة كمناطق (ج)، لضمها إلى المجال الاستيطاني. وهي خطوات لم تكن نهاية الحرب باعثها، بل محركها الحقيقي، إذ أراد الاحتلال تحويل توقف العمليات العسكرية إلى مكسب استراتيجي ميداني، خاصة بعد تراجع الإدارة الأمريكية الحالية عن دعم خطة الضم خلال الاشهر الفارطة.
وقد كشف تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة (OCHA) الصادر في جويلية الفارط عن زيادة بنسبة 46 بالمئة في عمليات هدم منازل الفلسطينيين خلال سنة واحدة، وهو ما أكده كذلك مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان (OHCHR) في بيان بتاريخ 18 مارس 2025، أشار فيه بوضوح إلى تسارع وتيرة الضم بحكم الواقع. هذه الإجراءات ليست معزولة، بل هي جزء من مخطط متكامل يرمي إلى تقطيع الجغرافيا الفلسطينية وتحويلها إلى جزر منفصلة تدار بالتصاريح والحواجز، محرومة من أدنى مقومات التواصل الترابي والسياسي.
وتتقاطع هذه السياسة في الضفة مع الخطة التي ترسم لقطاع غزة، والتي تقوم على تقسيمه إلى منطقتين رئيسيتين: الأولى، وتشمل نحو 53 بالمئة من أراضي القطاع، تخضع لسيطرة الاحتلال المباشرة، فيما تترك المساحة المتبقية، خلف ما يعرف بالخط الأصفر، لإدارة فلسطينية محدودة الصلاحيات. في قلب هذا المشروع الإحلالي يكمن الرهان الأيديولوجي القديم للكيان: الانتقال من السيطرة المؤقتة إلى الضم الدائم، بما ينسف عمليا مشروع الدولة الفلسطينية، في ظل خطاب غربي لا يزال يردد حل الدولتين بينما يتجاهل الواقع الذي يفرضه الاحتلال بمنطق القوة.
اليوم، يتجه الاحتلال نحو ضم ما تبقى من أراضي غزة، التي تعيش على وقع تصعيد متدرج يرمي إلى إعادة رسم المشهد بالكامل لصالح الاحتلال، بأدوات متعددة،من بينها ميليشيات محلية مدعومة منه، إلى غارات جوية وقصف مدفعي لم يتوقفا تماما، بل يتكرران في مناطق متفرقة. او إقامة كتل إسمنتية تقسم القطاع جغرافيا، مستفيدا من تراجع الضغط الغربي الذي استبدل الإدانة بالانخراط في إدارة المشهد، اذ يكفي أن قراءة بيان مجموعة السبع الصادر خلال اجتماعها الأخير في كندا، لنفهم حجم الانزلاق، إذ أكد البيان دعم خطة ترامب، ولا سيما بندها المتعلق بنزع سلاح المقاومة عبر نشر قوات دولية في القطاع.
في ضوء ذلك، يبدو الوضع في غزة مرشحا لمزيد من التعقيد. فالهدنة الحالية تفتقر إلى مقومات الاستمرار الطويل، وإن لم تكن مهددة بالانهيار الفوري، إلا أن بطء المفاوضات وتعدد رهانات الوسطاء يفتح الباب أمام واقع جديد تعيد من خلاله القوى الكبرى تعريف مفهوم ما بعد الحرب. فالتسوية المطروحة ليست سوى غلاف لمشروع قديم يعاد تسويقه، غايته محو فكرة السيادة الفلسطينية واستبدالها بإدارة مدنية محدودة الصلاحيات، خاضعة للهيمنة الأمنية والعسكرية المباشرة للاحتلال.
هكذا تتضح ملامح ما يمكن تسميته بالهندسة الجغرافية والسياسية الجديدة للأرض الفلسطينية، حيث يسعى الاحتلال إلى إنتاج قيادة معدلة ومعتدلة تقبل بالشروط المفروضة، وتتبنى خطابا يجرم المقاومة ويشرعن الاستيطان بذريعة الواقع القائم. هذه المقاربة هي امتداد لاستراتيجية الاحتلال القديمة التي تسعى إلى تحويل القضية الفلسطينية من قضية تحرر وحقوق وطنية إلى قضية إنسانية وأمنية يمكن إدارتها بالتمويل والمساعدات والرقابة الدولية.
وما يثير الانتباه اليوم هو أن العواصم الغربية لا تعترض على هذا المسار في جوهره، بل فقط على وتيرته وشكله، إذ يتمحور انشغالها حول ملفات إعادة الإعمار وضمان تدفق المساعدات لقطاع غزة مقابل ضمان امن الاحتلال، وهو ما يجعل من إدارة القوى الغربية لملف والزمن فرصة مثالية من منظور الاحتلال لترسيخ السيطرة وتثبيت حدود الأمر الواقع.
غير أن ما غاب عن حسابات الاحتلال هو أن كل محاولة لإلغاء الجغرافيا أو إعادة تشكيلها، تماما كما كل مسعى لتشويه الذاكرة أو تزوير السرد، تولد مقاومة جديدة. فما يجري اليوم ليس مرحلة انتقالية بعد الحرب، بل فصل جديد من صراع طويل حول الوجود والهوية والحق في الأرض. والاحتلال، مهما حاول إعادة رسم الخرائط، سيجد نفسه في مواجهة حقيقة راسخة: أن الأرض التي قاومت القهر جيلا بعد جيل، لا تعاد هندستها بالإسمنت، ولا تستبدل إرادتها بالحصار