الإعلان عن عزمها على إدماج الاقتصاد الموازي في الدورة الرسمية، والأمر لم يختلف في مشروع ميزانية 2026، إذ مرة أخرى تُقدَّم هذه النقطة على أنها من الأهداف الاستراتيجية للحكومة، والتي تشمل أيضًا مقاومة التهرّب الجبائي والتهريب والفساد.
هذا التكرار، الذي يجعل من الإعلان أشبه بفقرة بلاغية قارة في الخطاب الرسمي، بات يفرض طرح سؤال يتجاوز الغور في مسألة وجود النية والإرادة، ليتجه مباشرة إلى البحث عما إذا كانت الدولة التونسية تمتلك فعلًا القدرة والأدوات لدمج هذا الاقتصاد الذي أصبح، بحجمه وتأثيره، أشبه باقتصاد داخل الاقتصاد؟
وهنا تعلن الحكومة عن نيتها تطبيق خطة إصلاحية تهدف إلى إدماج مختلف أشكال الاقتصاد غير المنظم. وتركّز المقاربة الرسمية على آليات الرقابة والمراقبة الإلكترونية وتبادل المعلومات بين الإدارات، كما تتضمن بندًا يتعلق بتبسيط الإجراءات الجبائية لتشجيع الناشطين في الاقتصاد الموازي على الانخراط في المنظومة الرسمية. هذه العناصر، على أهميتها، تظل عناصر زجرية بالأساس، لا تختلف في جوهرها وشكلها عن المحاولات السابقة التي لم تسفر عن أيّ تقدم.
نجاح أيّ استراتيجية لإدماج الاقتصاد الموازي اليوم في تونس يتطلب أكثر من النوايا والإجراءات الزجرية، فلوضع أيّ استراتيجية لا بدّ قبل كل شيء من القيام بالأعمال التحضيرية، من أهمها تجميع معطيات إحصائية وكمية ونوعية دقيقة عن حجم هذا الاقتصاد وطبيعة الناشطين فيه، ويتطلب أيضًا تفكيك البنية الاجتماعية والاقتصادية التي يقوم عليها وفهم أسبابه البنيوية.
مجموعة من الأسئلة قد نقف عند البحث عن إجابات لها على حجم المعضلة التي تواجهنا، والتي تنطلق بتحديد حجم هذا الاقتصاد. ففي الأرقام والنسب التي تُعلن، ومصدرها الأساسي منظمات وجهات خارجية، تُقدَّر نسبة الاقتصاد غير المنظم من الناتج الوطني الإجمالي بين 30 و40 بالمئة، فيما يُقدَّر عدد الناشطين فيه بين 44 و60 بالمئة من الناشطين الاقتصاديين. وهذا يتركنا أمام أرقام قد تبدو متقاربة، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، فهي تنطلق من تعريف خاص بكل منظمة على حدة لماهية الاقتصاد غير المنظم، والذي قد يقتصر عند بعضها على التهريب أو الأنشطة غير القانونية.
وإن أخذنا هذه الأرقام والنسب، رغم أنها لا تقدم كامل الصورة، فإنها تكشف لنا منذ البداية أن الاستراتيجية الحكومية المعلنة أشبه بمحاولة جزئية لمعالجة ظاهرة بنيوية، إذ تتركّز الخطة الرسمية وأدواتها أساسًا على الرقابة والتشديد والإجراءات الإدارية، أكثر من تركيزها على فهم الظاهرة وتحديدها لخلق مناخ إدماج فعلي.
والفهم يحتاج إلى تفكيك البنية الاجتماعية والاقتصادية لهذا الصنف من النشاط، فمن الخطأ الاقتصار في النظر إلى الاقتصاد الموازي على أنه خيار أفراد للتهرّب من القطاع المنظم، فالمدقق في المنظومة الاقتصادية الرسمية سيقف على عدة نقاط تنفّر الناشطين الاقتصاديين من الانخراط فيها، سواء تعلق الأمر بأنها منظومة بطيئة ومعقّدة، تُثقلها الضرائب، وتخضع للبيروقراطية، التي تعالج مسألة الاقتصاد غير المنظم بشكل إداري زجري بالأساس، وليس من منطلق الدمج الفعلي الذي يبدأ من تفكيك أسبابه لا ملاحقة نتائجه، كما يتطلب الاعتراف بمن ينشط فيه كفاعلين اقتصاديين يجب أن تتوفر أمامهم مسارات آمنة نحو الاقتصاد الرسمي.
أي بجعل الانخراط في الاقتصاد الرسمي خيارًا مربحًا لا عبئًا إضافيًا. والبداية هنا قد تكون في تبسيط إجراءات التسجيل، وإقرار نظام جبائي تدريجي مرن، مع توفير التغطية الاجتماعية والصحية للعاملين في القطاعات الصغيرة والمتوسطة. إذ لا يمكن إدماج من يعيش في هامش النظام عبر تشديد قبضته، بل عبر تحرير شروط الانخراط فيه. وما لم تفهم الدولة هذه المعادلة، ستظلّ سياساتها أشبه بعملية مطاردة ظلّ لا تنتهي.
مطاردة قد تسمح للدولة بتحسين عائداتها الجبائية والحدّ نسبيًا من التهرّب، لكنها لا تنتج شروطًا اقتصادية مستدامة، فالإدماج الاقتصادي ليس مسألة تقنية بل هو خيار اجتماعي وتنموي. وما تعلنه الحكومة في خطتها لا يتضمن سياسات عمومية واضحة، ولا رؤية وطنية وجهوية تضع في عين الاعتبار تمركز الاقتصاد الموازي في المناطق الداخلية والحدودية، حيث يتحوّل النشاط غير الرسمي إلى آلية بقاء وليس تمرّدًا جبائيًا أو بحثًا عن النشاط غير القانوني.
كلّ هذا يسقط من عناصر الاستراتيجية التي كشفتها الحكومة في نقاشات مشروع قانون المالية، والتي كشفت بنودها عن أن العقل الذي صاغها هو عقل مركزي بيروقراطي، يتعاطى مع الأرقام لا البشر، ويجعل من الإدماج الاقتصادي شعارًا إداريًا لا مسار تنمية مستدامة طبيعية، يستهلّ هذا المسار بإعادة صياغة العقد الاقتصادي بين الدولة ومواطنيها