ما يشبه انتفاضة النواب ضد الانتقال بالمجلس من فضاء سياسي إلى إداري يخلو من النقاشات العامة بشأن المشاريع السياسية أو الرؤى الكبرى حول الاقتصاد والمجتمع. فقد تحوّلت أشغال البرلمان، خصوصاً خلال مناقشة ميزانية الدولة وقانون المالية لسنة 2026، إلى طقس تقني إداري فاقد للمعنى السياسي.
وهو ما تفاقم مع الجلسات العامة التي كشفت منذ بدايتها عن عمق الأزمة بين الوظيفتين التشريعية والتنفيذية. ولعل كلمة رئيسة الحكومة تكفي لتقديم تصوّر الحكومة للعمل البرلماني، الذي تريده الوظيفة التنفيذية أن يكون منضبطاً (أي البرلمان بغرفتيه) يلعب دور الممر السلس للقوانين والتشريعات التي تُصاغ خارجه، من منطلق أن السلطة حريصة على وحدة القرار وتقليص عدد الفاعلين في المشهد السياسي.
إذ إن السلطة ومنذ إرساء المنظومة الدستورية الجديدة، انطلقت في تنزيل تصوّرها لإدارة الحكم والفضاء السياسي العام بالبلاد، القائم على تركيز الصلاحيات وسلطة القرار لدى جهة واحدة تساندها مؤسسات لا صلاحية لها لرسم السياسات العامة للبلاد. هذا التصوّر التزمت به رئيسة الحكومة وعكسته في بيانها الخاص بقانون المالية، الذي تضمن إشارات صريحة وواضحة لمبدأ “وحدة الدولة”، الذي يعني عملياً رفض تعدد مراكز الفعل السياسي، وهذا يقود إلى تحجيم التنافس السياسي مع البرلمان الذي يُوجَّه عمله ليكون منسجماً مع الرؤية الوطنية الشاملة.
هذه الرسائل التي تكرر توجيهها من قبل الوظيفة التنفيذية للبرلمان، والتي يراد أن يلتزم بها، أي أن يصبح البرلمان وظيفة لا فضاء: وظيفته المصادقة، أما المبادرة والتوجيه فهما من صلاحيات الجهاز التنفيذي الذي «يملك الرؤية الشاملة» كما تكرر في خطاب الحكومة الذي يسعى لحصر النقاش في حدود تقنية صارمة. وهذا الخيار ليس إدارياً، بل اختيار سياسي موجّه نحو نزع القدرة التأسيسية عن البرلمان.
محاولة الوظيفة التنفيذية تأطير وحصر دور البرلمان قابَلها النواب في الأيام الأخيرة بما يشبه انتفاضة للتعبير عن رفضهم لدور تقنيّي المصادقة. وهذا ما بينته مداخلاتهم في الجلسات العامة خلال الأسبوع المنقضي، حيث ارتفعت الأصوات المحتجة على اختزال البرلمان في أداة تنفيذ وتجاهل السلطة التنفيذية لهم. وهو ما لمح إلى أن هناك محاولة لاستعادة السياسة داخل قبة البرلمان، من خلال المساءلة السياسية للحكومة وخياراتها. وقد تجلّى ذلك في محاولة تفعيل الدور الرقابي وتحميل المسؤولية للحكومة والرئاسة. وكلّها مؤشرات تُظهر أنّ النواب يحاولون انتزاع شرعية سُلبت منهم.
في عمق هذا الصراع، بدا ردّ فعل النواب أكثر من مجرد احتجاج لفظي، بل كان محاولة لإرجاع النقاش السياسي إلى قلب الجلسة العامة. لم تقتصر المواجهة على رفع الأصوات أو الاحتجاج الرمزي، بل استُعملت منصة البرلمان لإظهار الفجوة بين الخطاب الحكومي والواقع المعيشي. كانت هذه الحركات تكثيفًا لمناورة أراد بها النواب القول إن النقاش التقني الذي تغرق به الحكومة الفضاء العام يصبح ذا معنى فقط إذا تم ربطه بالسياق السياسي والاجتماعي.
ما يميز هذه الخطوة في البرلمان أنها فرضت على من يريد فهم المشهد مسألة تفكيك شاملة تنطلق من الخيار السياسي للحكومة، وتمتد لتفكيك الأسباب والآليات. على مستوى الأسباب، يهدف الطرح التنفيذي إلى فرض «وحدة الدولة» وفعالية صنع القرار عبر تقليص المراكز المتنافسة. وهذا يفسر عدم ثقة مركز الحكم في تونس في البرلمان الذي ينظر إليه كمصدر للخطر يجب تحجيمه وحصر دوره في المرافقة والمساندة، دون أي مبادرة أو محاولة للفعل السياسي؛ فهذا يهدد مسعى السلطة للهيمنة على العمل السياسي وصلاحية تمثيل الشعب والحديث باسمه.
ومقاربة مركز الحكم اعتمدت على آليات تشمل: التحكم في السرد، التحكم في المعلومة، وإدارة الزمن. وهي مفاتيح لفهم المقاربة السياسية للحكم في إدارة الفضاء البرلماني. وهذا ما استوعبه جزء من النواب الذين يتحركون كأفراد لا كمجموعات أو كتل. أفراد يحاولون استعادة شرعية المناقشة وتحميل المسؤولية كرافعة لشرعيتهم التمثيلية. وينطلقون في ذلك من أن فضح التباينات بين خطاب السلطة التنفيذية واحتياجات المواطن هو الطريق لتحقيق غايتهم. لذلك لعبوا على تضخيم بعد المساءلة وتحويل الخلاف إلى قضية ذات أثر سياسي وانتخابي واجتماعي، كما أنهم يلقون بالمسؤولية على السلطة ويعلنون تمردهم عليها أمام ناخبيهم / جمهورهم الذي يُستحضر بكثافة في الخطاب في سياق صراع الشرعيات الانتخابية والتمثيلية.
هذا المشهد الجديد في البرلمان الذي برز خلال الأسبوع الأخير لا يمكن النظر إليه على أنه نكسة في موازين القوة بين الوظيفتين، بل هو أقرب إلى سعي لإبراز قدرة المؤسسة البرلمانية على استعادة وظيفتها وصنع السياسة. وربما هنا قدرة جزء من النواب على تحويل جزء من النقاش اليوم من صيغته التقنية إلى صيغته السياسية بحدّ ذاتها نجاح في الصمود المؤسسي واستعادة لنسق التمثيل في وجه محاولة فرض نموذج حكم تحتكر فيه الوظيفة التنفيذية الفعل السياسي وتمثيل الشعب