بيان الحكومة بشأن قانون مالية 2026: غابت الرؤية وحضرت التفاصيل

منذ كلماتها الأولى أعلنت رئيسة الحكومة يوم

أمس أنّها «تقدّم بيان الحكومة حول مشاريع الميزان الاقتصادي وقانون المالية وميزانية الدولة لسنة 2026”، ولكن هذا غاب فسُرعان ما تحولت الكلمة إلى تقرير وصفي مطوّل يُغرق في التفاصيل التقنية والأرقام والإجراءات.

لتبدو رئيسة الحكومة وهي تقدّم مشروع قانون المالية والميزان الاقتصادي لسنة 2026 كمن يقرأ تقريرًا ماليًا أكثر منها من يعلن رؤية وطنية أو منوالًا للتنمية. كان الخطاب ثقيلاً بالتفاصيل والأرقام غارقًا في الإجراءات، خاليًا من الروح التي تمنح السياسات معناها ومن التوجه الذي يجعل من الأرقام طريقًا لا متاهة يغيب عنها الخيال المؤسّس الذي يفترض أن يُلهم السلطة في رسم سياساتها العمومية.

فالخطاب يورد أرقامًا دقيقة حول “نسبة النمو المتوقعة بـ3.3 % سنة 2026»، و»العجز التجاري في حدود 3.6 %”، نسبة التضخم وارتفاع دخل الفرد، لكنه رغم هذه الدقة المحاسبية بقي خاليًا من الإجابة عن سؤال جوهري: لماذا هذه الإجراءات؟ إلى أيّ مستقبل تُقود البلاد؟

فالبيان الذي استمر إلقاؤه لساعة ونصف بدا وكأنه جردٌ مُمنهج لمشاريع الوزارات أكثر من كونه عرضًا لرؤية حكومية متماسكة، تجيب بها عن أسئلة تؤرق التونسيين أبرزها: «أيّ اقتصاد نريد؟» وكيف يمكن للفاعل السياسي أن يرسم لنا طريقًا إليه؟

إذ عوض ذلك، سردت رئيسة الحكومة عبر معجم محاسباتي لا سياسي سلسلة من التدابير المتناثرة لا يجمع بينها أي رابط بنيوي: زيادة في الأجور، فتح باب الانتداب، دعم للمحروقات، صناديق جديدة للفئات الهشّة، خطوط تمويل لصغار الفلاحين، رقمنة الإدارة، تطوير النقل، وتحسين الخدمات الصحية… وعلى أهمية هذه الإجراءات إلا أنها تفتقر لرابط بنيوي يجعلها أقرب إلى تلبية للمطلبية منها إلى التخطيط والاستشراف، وبذلك يُرسّخ بيان الحكومة صورة مفادها أنّ الحكم في تونس اليوم بات بمثابة إدارة مطالب اجتماعية لا هندسة مستقبل مشترك.

وما يُفاقم من ثقل هذا التمشي أن خلف هذه الغزارة الإجرائية غابت الوجهة التي كان يمكن أن ندركها لو توفر رابط بين الإجراءات أو لو أخبرتنا الحكومة عنها بشكل مباشر. لكن لم تقل لنا رئيسة الحكومة في كلمتها: إلى أين تمضي البلاد؟ ولا ما هو منوالها الاقتصادي؟ هل ستُشجع على اقتصاد إنتاجي موجّه للتصدير؟ أم خدماتي قائم على دعم الاستهلاك؟ الأسئلة الكبرى لم يرد في الخطاب جواب واحد يطمئن بشأنها، بل حُجبت وراء بلاغة عامة تتكرر فيها مفاهيم العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة دون أن تمنحها مضمونًا فعليًا.

لقد اكتفى البيان بأن يقدّم قانون المالية كإطار محاسباتي لنفقات وموارد البلاد، بينما ظلّ المنوال التنموي — الذي يُفترض أن يُؤطّره — مؤجّلاً إلى حين الكشف عن “مخطط التنمية 2026–2030” الذي قُدّم في الخطاب بصفته حلًّا لاحقًا لا سياقًا راهنًا يؤطّر مشروع قانون المالية ونفقات الدولة.

كما أنّ الخطاب تجنّب أيّ تقييم نقدي لسياسات 2025، واقتصر الأمر على محاولة خلق صورة إيجابية سبق وكشف تقرير إنجاز ميزانية 2025 هشاشتها، ولكن رغم ذلك حرصت رئيسة الحكومة على أن تُقدّم الجانب الذي تعتبره مُشرقًا وهو تراجع التضخم إلى 4.9 % وانخفاض نسبة البطالة إلى 15.3 %. أرقام قُدّمت كإنجازات دون الكشف عن أسبابها أو شروط استدامتها، مما يجعل من الصعب معرفة إن كانت هذه الأرقام نتيجة سياسات ناجعة أو مجرد انعكاس لظرف وطني ودولي مواتٍ.

هذا البيان الطويل، لم يكن لعرض مشروع اقتصادي بل تسلسلًا للقرارات الإدارية تنظر إلى المال العام ليس كوسيلة لتحقيق العدالة والتنمية المستدامة، بل مقياسًا لضبط التوازنات. وهو ما يكشف أنّ الحكومة بخطابها كانت تحاول إقناع البرلمان بأنّها تُدير الأمور بـ«نجاعة» وهو ما حوّل البرلمان في تلك الجلسة إلى فضاء تقنيّ لعرض الميزانيات لا منبرٍ سياسيٍّ لمناقشة الخيارات الكبرى. وهكذا اختُزلت السياسة في الحساب، والتنمية في البنود، والخيال في الأرقام.

في النهاية، ما قدّمته رئيسة الحكومة ليس رؤية لإعادة بناء الاقتصاد، بل خطة تسيير عام لدولة تُحاول البقاء بخطاب اجتماعي في نبرته، بيروقراطي في جوهره. والنتيجة أنّنا أمام بيانٍ يُفكّك قانون المالية بندًا بندًا، لكنه لا يُجيب على السؤال الأهم: أيّ تونس نريد أن نبنيها من خلال هذا القانون؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115