عن أكثر من مجرد توتر المناخ بين النقابة ومجلس البنوك، فما ابرزه الاضراب هو اننا امام ترسيخ واقع سياسي جديد عملت السلطة على تكريسه عبر إعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع بعيدًا عن كل أشكال الوساطة.
هنا تكمن أهمية ما كشفه إضراب البنوك ومؤسسات التأمين، وهو انهيار آلية تفاوضية كانت لعقود بمثابة ركيزة اساسية للاستقرار الاجتماعي في تونس، التي عرفت منذ الاستقلال الية «الحوار الاجتماعي» كصيغة لإدارة النقاش والمفاوضات بين الدولة والأعراف والاتحاد العام التونسي للشغل باعتباره ممثل الاجراء بهدف تحقيق توازن بين مطالب العمال ومصالح رأس المال ومنع أزمات قد تربك اقتصادًا هشًّا لا يحتمل هزّات عنيفة أو تحول الخلافات إلى صراع وجودي.
لكن الأحداث التي انطلقت قبل هذا الاسبوع ومهدت لهذه القطيعة اليوم التي كشفتها الجامعة العامة للبنوك تأكيدها أنها لجأت إلى الإضراب بعد تعثّر الاتفاق مع ممثلي البنوك بشأن الاستجابة لجملة من المطالب من بينها زيادة الأجور، وأن هذا الخيار التصعيدي كان نتيجة انسداد أفق التفاوض، خاصة بعد أن أبلغ الطرف الآخر أي مجلس البنوك بأن الزيادة في الأجور لم تعد محل تفاوض نظرًا لأن مشروع قانون مالية 2026 تضمّن فصلاً يتحدث عن الزيادة في الأجور في الوظيفة العمومية والقطاع العام وايضا في القطاع الخاص، ستحدد نسبها لاحقًا بأوامر.
وهنا أعلن مجلس البنوك أنه تبنّى رؤية الدولة التي لم تعد تعتبر الطرف النقابي ممثلًا اليوم في الاتحاد شريكًا يقع التفاوض معه، بل طرفًا يجب أن يلتحق بخيارات وقرارات السلطة. أي أن كل ما يتعلق بملف الزيادة في الأجور خرج من منطق التشاركية إلى منطق التشريع الأحادي المتصل بخيارات السلطة التنفيذية.
هذا التوجّه، الذي أصبح واقعًا اليوم، كشفه بوضوح ما عاشه قطاع البنوك والمؤسسات المالية من جدل وتطورات أربكت المسار التفاوضي السابق وألغته كليًا. ولا يمكن فصله عن السياق السياسي العام في البلاد بعد 2021، حينما كررت الدولة خطابًا يعتبر الأجسام الوسيطة — أحزابًا كانت أو نقابات — عوامل إرباك وتعطيل لمصالح الشعب الذي لم يعد في حاجة، وفق النظام السياسي الجديد، لمن يلعب دور الوسيط بينه وبين مؤسسات الحكم والدولة التي باتت اليوم تعبّر عن إرادته وخياراته مباشرة.
هذا الخطاب، الذي تُرجم في نص الدستور الجديد وفي خيارات السلطة الكبرى، شكّل واقع البلاد اليوم، اللذي يشمل التضييق على النشاط النقابي واستبدال الحوار بقرارات إدارية وتقنية. وفي الوقت الذي تشهد فيه البلاد تصاعد لحدة الاحتقان في الشارع نتيجة لتآكل القدرة الشرائية، والتضخم الذي لم تُكبح جماحه، والضغط الضريبي المتزايد، يغيب الحوار الاجتماعي.
هذا الحوار الذي كانت نتائجه تحدد نسب الزيادات وتوقيت صرفها بما يضمن توازنات دقيقة بين ثلاثة أطراف اجتماعية، وهي الدولة والأعراف والاتحاد، الغي وحلّ عوضًا عنه منطق إداري يرى أن قوانين المالية تُدار بمنطق السيطرة على العجز والإنفاق، وهو ما قد ينعكس على ملف الزيادة في الأجور.
كما أن قنوات التفاوض أُغلقت كليًا ولم يعد من يدعو للحوار غير الاتحاد الذي يواجه اليوم صمتًا يرتقي إلى حد التجاهل من قبل الدولة والأعراف، مما دفع بأمينه العام نور الدين الطبوبي إلى التشديد على أن «التفاوض حق»، وأنه من أجل ضمان هذا الحق فإن منظمته ومناضليها يدرسون كل الخيارات، والمقصود هنا الذهاب إلى التصعيد باعتباره السبيل الوحيد المتبقّي، تمامًا كما كان عليه الأمر في علاقة بقطاع البنوك والمؤسسات المالية.
ما نعيشه اليوم هو سحب ملفات اجتماعية وشغلية بالكامل من طاولة «الحوار الاجتماعي» إلى مركز الحكم السياسي. هذا التحوّل يعيد إنتاج دولة ترى في نفسها المالك الوحيد للشرعية، وهو ما يطمس أحد أهم مكاسب الانتقال التونسي بعد 2011: أي توزيع المشروعية بين الدولة والفاعلين الاجتماعيين، وإدارة الخلافات عبر التفاوض الذي لا يقتصر في مسألة الحوار الاجتماعي على نقطة الزيادة في الأجور بل يتجاوزها ليطال كل عناصر السياسة الاجتماعية للدولة وسياساتها الجبائية وإدارتها لموظفيها وعمالتها، إلى غير ذلك.
المفارقة أنه وبترسيخ نموذج يُلغي ضمنيًا التفاوض ويُسوّق لنفسه على اعتباره طريقًا إلى الانضباط والاستقرار المالي، ينتج عكسه تمامًا: هشاشة سياسية، احتقان اجتماعي، وشلل اقتصادي كلما تعثرت قدرة الدولة على الاستجابة. فهي حينما تتخلّص من الوسطاء تفقد الأدوات اللازمة لامتصاص الصدمات بوضع نفسها في مواجهة مباشرة مع كل فئة متضررة، وتصبح كل أزمة صغيرة قابلة للتحوّل إلى أزمة دولة.
وهذا ما بيّنه إضراب البنوك الذي حمل رسالة واضحة مفادها ان إدارة مجتمع أمر معقّد وليست عملية تنفيذ أوامر. إذ هي عملية تقوم على التفاوض والتكيّف المستمر مع توازنات متغيّرة. لذلك فإن استعادة الحوار الاجتماعي ليس مطلبًا نقابيًا، بل شرطًا لبقاء قدرة الدولة على الحكم. لأن دولة بلا وساطة وبلا تفاوض، دولة بلا حلول