لسنة 2026، ومعه كشفت عن أكثر من مجرد فصول وأرقام تعكس رؤيتها المالية والاقتصادية والاجتماعية، بل عن عمق الأزمة الهيكلية التي تكشفها المؤشرات الكلية للاقتصاد والمالية التونسية، سواء تعلق الأمر بحجم الميزانية من الناتج الوطني أو بالفروقات بين تطوير نفقات الأجور والتصرف ونفقات الاستثمار العمومي.
فما تقدمه الحكومة في مشروع قانون ماليتها والميزانية يكشف عن تثبيت التغيير في المشهد المالي في البلاد منذ الثورة. فمن قانون مالية 2010 الذي ضمّ ميزانية متوازنة نسبيًا رغم ما فيه من نقاط ضعف، وطوال 15 سنة تغير المشهد جذريًا، لتتحوّل الميزانية تدريجيًا من أداة لإدارة الاقتصاد وتحفيزه إلى جهاز إنفاق ضخم تتزايد أرقامه عامًا بعد عام، دون أن ينجم عن ذلك نمو أو استثمار أو جودة الخدمات العمومية.
فقد ارتفعت الميزانية من حوالي ثمانية عشر مليار دينار سنة 2010 إلى قرابة ثمانية وسبعين مليار دينار سنة 2025، مع توقع أن تبلغ تسعة وسبعين مليار دينار في 2026. ورافق ذلك ارتفاع نصيب الميزانية من الناتج الداخلي من حوالي 29 ٪ سنة 2010 إلى قرابة 52 ٪ وفق تقديرات سنة 2026، ما يعني أن نصف النشاط الاقتصادي تقريبًا بات يدور حول الدولة.
وإذا دُقّقنا في طبيعة الإنفاق العمومي، تتضح لنا ملامح الخلل الهيكلي، فمقابل ذلك تضاعفت كتلة الأجور من 6.8 مليار دينار سنة 2010 إلى أكثر من 24 مليار دينار سنة 2025، أي من 30 ٪ إلى ما يعادل 40.08 ٪ من الميزانية، ومن المتوقع أن تبلغ نحو 26 مليار دينار وفق مشروع ميزانية 2026.
في المقابل، شهدت نفقات الاستثمار تطورًا بنسق مغاير كليًا، فقد سجل متوسطًا سنويًا يقدّر بأقل من 4 مليارات دينار طيلة السنوات الخمس عشرة الماضية، والتي مثلت فيها نفقات الاستثمار أقل من 7 ٪ من الميزانية، لكن الرقم الأكثر دلالة هو أن حجم الإنفاق المخصص للاستثمار العمومي في سنة 2010 كان حوالي 5 مليارات دينار، وهو اليوم وفق تقديرات ميزانية 2026 يبلغ 5.8 مليار دينار، رغم أن الميزانية تضاعفت حوالي خمس مرات.
مؤشر آخر يكشف عن عمق الخلل الهيكلي هو خدمة الدين العمومي التي قفزت من 3.6 مليارات دينار إلى ما يقارب 21 مليار دينار، لتصبح ثاني أكبر بند في الميزانية بعد الأجور. أما الاستثمار العمومي، فبقي راكدًا من 3 إلى 5 مليارات دينار سنويًا.
وهكذا تحوّل هيكل الإنفاق من ميزانية موجّهة للتنمية إلى ميزانية مثقلة بالتزامات جارية لا تترك هامشًا كافيًا للتحرك الاقتصادي. فالدولة، التي كانت فاعلًا اقتصاديًا واستثماريًا أساسيًا، أصبحت أسيرة كتلة أجور متضخمة وديون متراكمة، مما حوّل الميزانية إلى أداة لتسيير اليومي أكثر منها لرسم المستقبل.
هذا التحوّل المالي لا يمكن فهمه إن لم يُنزل في سياقه العام السياسي والاجتماعي الذي عاشته تونس منذ الثورة. فقد مثّل التوسع في الوظيفة العمومية والإنفاق العمومي أحد أدوات امتصاص الضغط الاجتماعي، لكنه تحوّل مع الوقت إلى عبء هيكلي على المالية العمومية، فازدادت الحاجة إلى الاقتراض، وارتفعت كلفة خدمة الدين عامًا بعد عام.
وفي العمق، يعكس هذا المشهد مفارقة الدولة التونسية ذات الحضور المالي القوي ولكن بفعالية اقتصادية محدودة. فكلما تضخّمت ميزانيتها، تقلّص أثرها التنموي. إنها معادلة تؤشر إلى أن المشكلة ليست في حجم الإنفاق بل في تركيبته وفي غياب الرؤية الاستراتيجية التي تحدد أولويات الصرف وجدواه، وهذا ما جعلنا ندور في حلقة شبه مغلقة من النمو الهش.
فبين عامي 2010 و2026 تضاعفت الميزانية أكثر من خمس مرات، في حين لم يتضاعف الناتج المحلي سوى مرة ونصف تقريبًا. هذا التفاوت في وتيرة النمو بين الإنفاق والإنتاج هو أصل العجز المزمن الذي تعرفه المالية العمومية.
فالتوسع المالي لم يكن ناتجًا عن توسّع في النشاط الاقتصادي، وهو ما دفع البلاد اليوم إلى أن تواجه أكثر من مجرد عجز مالي، بل عجزًا في نمذجة إدارة المال العام. واليوم يبدو أن النقاش لم يعد يقبل أن يظل حبيسًا في حجم الموارد أو أبواب الإنفاق، بل يجب أن نفتح نقاشًا في معنى الميزانية نفسها: هل هي أداة لخدمة التنمية أم لتسيير التزامات اليومية للدولة؟
لقد أصبحت المالية العمومية مرآة تعكس أزمتنا في عمقها السياسي والاقتصادي، والتي يمكن التعبير عنها بأننا في حلقة مفرغة من الإنفاق دون أثر، والتمويل دون مردودية