مشروع قانون المالية 2026: وعود اجتماعية في مواجهة واقع مالي هش

قدّمت الحكومة مشروع قانونها الجديد بوصفه قانونًا

اجتماعيًا بامتياز، هدفه تكريس العدالة الجبائية وتحسين القدرة الشرائية ودفع التشغيل، ومواصلة الإصلاح الإداري ودعم التحول الطاقي والرقمي. في سياق وطني عام تتراكم فيه الأعباء على المالية العمومية، وتزداد هشاشة الوضع الاجتماعي، وتتراجع قدرة الدولة على لعب دورها التنموي. وهو ما يجعل ما يبدو على الورق برنامجًا متوازنا، هو برنامج يخفي بين سطوره توترًا بين الوعود والواقع، بين خطابٍ اجتماعي يغازل الرأي العام وواقعٍ مالي مثقل بالقيود.

فمشروع القانون الباحث عن تحقيق خمسة أهداف كبرى، تحسين الأجور وجرايات التقاعد، تحقيق العدالة الجبائية، إحداث فرص عمل جديدة، دعم التنمية الجهوية، وتحديث الإدارة عبر الرقمنة والتحول الطاقي .لم يقدم، رغم أهمية هذه الأهداف، خططًا دقيقة أو مؤشرات قياس واضحة، لتظل أقرب إلى الشعارات منها إلى البرامج القابلة للتنفيذ. فلا ذكر لعدد مواطن الشغل المزمع إحداثها، ولا لوتيرة التحول الطاقي أو كلفته، ولا لتأثير السياسات الاجتماعية المقترحة على العجز والمديونية.

هكذا يتحوّل النص من وثيقة مالية إلى خطابٍ سياسي يريد طمأنة الشارع أكثر مما يسعى إلى إصلاح البنية الاقتصادية. وعودٌ تتكرّر كل عام بخطاب متفائل، لكنّها تصطدم دائمًا بالواقع، عجز مالي متفاقم، وضعف الاستثمار العمومي، وتراجع الثقة في الدولة كمحرّك للنمو.

في ظل هذا تأتي الوعود الكبرى التي يتضمّنها قانون المالية ، من بينها تعزيز العدالة الجبائية ، لتُقدَّم كأدوات لتوزيع الثروة وتحقيق الإنصاف. غير أنّ هذه الأدوات، حين نمعن النظر في تفاصيلها، تكشف عن محدوديتها وعن عمق التناقض بين الخطاب والممارسة. فقد أُدرجت ضريبة على الثروة ومساهمة اجتماعية جديدة على بعض الشركات بنسبة 4 ٪، إلى جانب الترفيع في عدد من الأداءات والرسوم. وهي إجراءات تُقدَّم بوصفها خطوة نحو العدالة، لكنها في جوهرها لا تغيّر من طبيعة المنظومة الجبائية القائمة، التي لا تزال تعتمد على الضرائب غير المباشرة بما يثقل كاهل الفئات المتوسطة والضعيفة، في حين تبقى الضريبة على الثروة رمزية في ظل غياب قاعدة بيانات دقيقة للممتلكات والدخول الكبرى.

أما على مستوى التمويل، فإنّنا امام عجز بـ11 مليار دينار سيقع معالجته بالاعتماد على القروض الداخلية والخارجية، التي تجاوزت قيمتها 27 مليار دينار، وهو ما يفضح هشاشة موارد الدولة الذاتية. والمشكلة ليست في القروض في حد ذاتها، بل في وجهتها، إذ تُستهلك في تغطية الإنفاق العمومي ورواتب الموظفين بدل توجيهها للاستثمار المنتج. إنها إدارة للأزمة وليست معالجة لها، وسياسة إنفاق تُسكن الأوجاع دون أن تقتلع جذورها.

والرهان على التمويل المباشر من البنك المركزي لا يختلف كثيرًا، فهو أشبه بمحاولة إخماد الحريق بالوقود، يوفّر سيولة آنية تمتصّ الضغط، لكنه يفتح الباب أمام موجات تضخّم جديدة تلتهم أي زيادة في الأجور، وتُفرغ الخطاب الاجتماعي من مضمونه. وهكذا تتحول أدوات التمويل من رافعة للتنمية إلى وسيلة لتأجيل الانفجار الاجتماعي.

وهو ما ينتقل بالجباية من كونها أداة لإعادة التوزيع تحوّلت إلى وسيلة لملء الخزينة على حساب الطبقة الوسطى، والاقتراض الذي يُفترض أن يكون محفّزًا للنمو صار غايةً في ذاته. وبين الاثنين تتآكل قدرة الدولة على المبادرة، ويترسّخ منوال مالي قائم على الجباية والاستهلاك بدل الإنتاج والاستثمار. وهذا يقترن مع إنفاق عمومي ما زال موجّها للاستهلاك لا للإنتاج، فالدولة ما زالت تمارس دورها كموزّع للموارد أكثر منها محفّزًا للنمو.

لكن هذا لا يعنى ان مشروع القانون لا يتضمن نقاط إيجابية، ومنها إدراج محور التحول الطاقي والرقمي ضمن أولويات الحكومة. فالدفع نحو الطاقات المتجددة، وتحفيز استعمال السيارات الكهربائية، وتحسين الخدمات الإدارية عبر الرقمنة هي خيارات سليمة وصائبة من حيث الاتجاه. لكن هذه المبادرات تظل محدودة الأثر ما لم تُربط بسياسات تشغيل وتنمية جهوية واضحة. فالتحول الطاقي لا يجب أن يكون مجرد مشاريع للنخب أو للمستثمرين الكبار، بل رافعة لتشغيل الشباب في الجهات الداخلية ومجالاً جديدًا للاستثمار المحلي. أما الرقمنة، فهي قادرة على أن تكون رافعة للشفافية والنجاعة، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية وبنية تحتية لم تُستكمل بعد.

وهو ما ينعكس في النهاية على مشروع قانون المالية لسنة 2026 ، ليجعله اقرب الى محاولة لتثبيت السلم الاجتماعي في سنة صعبة أكثر منه مشروعًا لإعادة بناء الاقتصاد. هو قانون اجتماعي في شكله، لكنّه مالي في جوهره، يسعى إلى امتصاص الغضب لا إلى معالجة جذور الأزمة.

لقد آن الأوان للانتقال من سياسة التهدئة إلى سياسة الإنتاج، ومن إدارة العجز إلى إدارة التنمية. فلا عدالة اجتماعية حقيقية دون اقتصاد منتج، ولا مالية عمومية سليمة دون مساءلة ومؤشرات قياس واضحة. أما الاكتفاء بترميم السقف دون إصلاح الأساس، فسيجعل من كل قانون مالية جديد مجرد استراحة قصيرة في مسار أزمة لم تنته بعد

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115