لم يكتب بعد يصبح التنبؤ به أمرا مستحيلا لا فط لتعدد الممكنات ولكن أساسا لأن لا أحد بمقدوره أن يضبط بدقة القائمة الشاملة لكل ممكنات الحاضر..
الحاضر الآني يهيمن على الجميع اليوم وهو يهيمن على الماضي وعلى المستقبل على حدّ سواء.. الحاضرية (le présentisme) على حدّ عبارة المؤرخ الفرنسي (François Hartog) تقوم على استعجالية اللحظة الراهنة التي يفرضها عالم الصورة المعولم بدرجة يختل معها التوازن المطلوب بين مستويات الزمن الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل لفائدة الحاضر الآني فقط ويصبح فيها التفكير في المستقبل باعتباره أفقا ايجابيا للبشرية أمرا شبه مستحيل...
الحاضرية تطغى بدورها اليوم على القضية الفلسطينية بصفة تراجيدية وسنشعر جميعا، أصحاب القضية وأنصارها والمتعاطفون معها وخصومها وأعداؤها على حدّ سواء، أن نتائج المفاوضات غير المباشرة في مصر بين المقاومة وسلطة الاحتلال هي التي ستحدد بشكل شبه نهائي مصير ومستقبل فلسطين..
لقد حاولنا في هذه السلسلة الثلاثية الخروج عن منطق الهيمنة المطلقة للحاضر الآني بداية باعطاء نظرة عامة على عناصر ومراحل مأساة فلسطين على امتداد قرن ونصف أي منذ بدايات الحلم الصهيوني في سبعينات القرن التاسع عشر ،نهاية بمحاولة التفكير في المستقبل دون الخضوع المطلق لاستعجالية الحاضر...
عدم الخضوع لهيمنة الحاضر لا يعني نفي أثره أو التقليل من أهميته بل اعتباره محطة من محطات التاريخ فقط لا غير، محطة فيها ولا شك آلام الماضي وممكنات المستقبل ولكنها محطة فقط ورغم كونها تمثل، كما سنرى، منعرجا في تاريخ القضية الفلسطينية ولكنها ليست كذلك المنعرج الأخير..
يمكن أن نقول أن اللحظة الآنية تتمثل في هاتين السنتين اللتين أعقبتا عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر 2023 وهو لحظة تستوجب الوقوف العقلاني عندها لرصد نجاحاتها واخفاقاتها بالنظر الى القضية الفلسطينية برمتها.
سال حبر كثير حول عملية 7 أكتوبر: طبيعتها وجدواها ونتائجها وحول المسؤولية المباشرة أو غير المباشرة لـ«طوفان الأقصى» في حرب الابادة التي شنها الكيان الصهيوني على غزة..
قد نصدم البعض ولكن في رأينا كل هذه الأسئلة تنتمي للعابر ولغير الجوهري ولنوع من السذاجة الأسيرة للحاضرية التي لا تنظر بصفة تاريخية لتراجيديا الشعب الفلسطيني.
ينبغي التذكير دوما بما يبدو كبديهيات: اننا ازاء استعمار استيطاني إحلالي ( أي إحلال الغزاة مكان السكان الأصليين) وفلسطين ليست حالة فريدة في تاريخ الاستعمار الغربي وخلق «شعب» من عدم ليس خاصية صهيونية تماما كالايمان بأرض ميعاد لبشر لا يمتون لهذه الأرض بأية صلة..
الغالبية الساحقة للدول التي تشكل اليوم القارة الأمريكية بشمالها وجنوبها (أكثر من ثلاثين دولة) تأسست تماما كدولة الاحتلال يضاف اليها دول أخرى كأستراليا وزيلندا الجديدة.. كلها قامت على ايديولوجيا استعمارية استيطانية احلالية وكانت الابادة الجماعية وسيلتها الأساسية لتحقيق أهدافها..
ما أصبح اليوم يعرف بالولايات المتحدة الأمريكية كانت «أرض ميعاد» لـ«شعب الله المختار» من البريطانيين الذين استعمروا هذه البلاد منذ بدايات القرن السادس عشر باعتبارها بشارة توراتية تماما كما وعد يهوه (الله) بني اسرائيل بأرض الكنعانيين..
وتمت ابادة الشعوب والأمم الأصلية التي سميت بالهنود الحمر كما أباد بنو اسرائيل في الأسطورة التوراتية الكنعانيين.. قم وعد «شعب الله» الاستيطاني في العالم الجديد الشعوب والأمم الأصلية بدولة «مستقلة» أطلقوا عليها اسم «الدولة الكنعانية للهنود الحمر» منذ بدايات القرن التاسع عشر، دولة «دائمة أبدية» يعيش فيها «كنعانيو» أمريكا بسلام !!!
وسواء فاوضت بعض هذه الأمم والشعوب أو قاومت بالسلاح النتيجة كانت واحدة: ابادة جماعية وترحيل قسري من «دولة» موعودة الى أخرى الى أن انتهى بها الأمر الى «العيش» داخل معسكرات مبثوثة على أرض الآباء والأجداد.. واليوم هنالك حوالي 5،7 مليون نسمة من هذه الأمم والشعوب الأصلية في الولايات المتحدة وهم يمثلون بالكاد 1،7 ٪ من مجموع السكان...
ينبغي أن يطالع الجميع مؤلفات أستاذ الانسانيات ومدير الدراسات العربية بجامعة سفوك ببوسطن بالولايات المتحدة منير العكش سوري الأصل وفلسطيني الاختيار الذي أرَخ في كتب عديدة لقصة هذا الاستعمار الاستيطاني الاحلالي الابادي الذي تأسس على توظيف استعماري لنصوص التوراة وخاصة كتابه المرجع المترجم الى العربية تحت عنوان «دولة فلسطينية للهنود الحمر»..
الدرس الوحيد من التاريخ هو أن الاستعمار الاستيطاني الاحلالي إبادي بطبيعته سواء تفاوض أو قاوم سياسيا أو بالسلاح السكان الأصليون لأن الاستعمار الاستيطاني لا يأتي للتعايش مع السكان الأصليين بل لافتكاك أرضهم وطردهم منها بالابادة أو بالتهجير أو بالاثنين معا..
نقول كل هذا لنؤكد على حقيقة بديهية يولى عنها النظر جلّ الحكومات في العالم وهي أن الكيان المحتل كيان ابادي قبل ومع وبعد عملية «طوفان الأقصى».. لنتذكر فقط عمليات التهجير القصري والابادة التي حصلت سنة 1948 قبل وبعد الاعلان الرسمي على انشاء الدولة العبرية والتي وسعت بالقوة حدودها من 56 ٪ من أرض فلسطين التاريخية بمقتضى قرار التقسيم سنة 1947 الى ما يقارب 80 ٪ وذلك بمباركة أممية وبرضوخ عربي..
صحيح أن مشاهدة المجازر اليومية على امتداد هاتين السنتين فظيعة للغاية وأن دولة الاحتلال سعت لاستعمال «طوفان الأقصى» بعمليتي الاقتحام والقتل من جهة والأسر من جهة أخرى لتنفيذ مخطط سابق يهدف الى الابادة والتهجير اذ لا ولن يقبل قادة الاحتلال البارحة واليوم وغدا بعيش حوالي 7 مليون فلسطيني داخل فلسطين التاريخية ما بين غزة والضفة وما يسمى بعرب اسرائيل.. إن شرط دوام الاستعمار الاستطياني الاحلالي هو تحويل الفلسطينيين الىأقلية بشرية تعيش داخل باتوستنتانات حتى وإن أطلق على هذه الأخيرة اسم «دولة»..
ولكن هاتين السنتين كشفتا أمرين اثنين جديدين رغم القتل والتجويع والدمار الذي حلّ بغزة أساسا وأهاليها ولكن بالضفة أيضا وإن كان بشكل أقل ضراوة بكثير..
لقد اكتشف الكيان أن المقاومة الفلسطينية المسلحة يمكنها أن تمثل خطرا وجوديا عليه خاصة لو حصل تغيّر جوهري في موازين القوى الدولية.. نحن لا نتحدث عن سنوات أو حتى بعض العقود ولكن القائمين على الفكر الاستراتيجي الصهيوني لا يمكنهم القبول بهذا الخطر على المدى البعيد لذلك سعوا لا فقط الى تدمير المقاومة المسلحة بل وأيضا كل حلفائها الطبيعيين وخاصة حزب الله أساسا وايران وأذرعها في المنطقة بدرجة أقل..
المسألة الثانية الاستراتيجية هي موجة التعاطف الشعبي الدولي غير المسبوق مع القضية الفلسطينية ومع الفلسطينيين رغم الدعاية الرهيبة على امتداد هاتين السنتين لتقديم المقاومة المسلحة كحركة ارهابية نازية وأن حرب اسرائيل هي حرب المدنية والحضارة ضدّ التوحش والبربرية.. والربط هنا واضح مع ما كتبه مؤسس الصهوينية السيتسية تيودور هرتسل منذ سنة 1896 في كتابه «دولة اليهود» (أنظر الحلقة الثانية من هذه السلسلة)..
لا يمكن للعاقل (ة) ألا يقر بأن المقاومة الفلسطينية المسلحة تلقت ضربات مؤلمة للغاية بقتل واغتيال العديد من قادتها العسكريين والسياسيين والآلاف من عناصرها المدربة وبتدمير كبير لبنيتها التحتية كما وضعت المقاومة في موقف حرج للغاية لأن مواصلتها القتال - وهي قادرة عليه نسبيا - يسبب لشعبها مزيدا من المآسي والدمار.. ورهان الاحتلال اليوم، مع حلفائه في العالم بما في ذلك نظم عربية عديدة وبعض الحكومات الغربية التي تظهر تعاطفا مع الفلسطينيين اليوم.. الرهان هو القضاء نهائيا على المقاومة باجبارها على التخلي على سلاحها وبترحيل ما بقي من قياداتها الميدانية وباقصائها من المستقبل السياسي لفلسطين وباعادة اعمار غزة بما يقضي نهائيا على بنيتها التحتية وخاصة الأنفاق التي مثلت طريقة مبتكرة في القتال والصمود...
الضغط اليوم كبير جدا على المقاومة: اما القبول بشروط الاحتلال (وهي أيضا شروط أمريكية وأوروبية وعربية) أو استئناف حرب الابادة بعد التحرير المفترض للرهائن..
لسنا ندري اليوم كيف ستكون مآلات عملية كسر العظام هذه وما هي الهوامش التي يمكن لوفد المقاومة استغلالها في المفاوضات الجارية اليوم في مصر.. ولكن حتى لو افترضنا الأسوأ ورضخت المقاومة لهذه الشروط أو تم استئناف حرب الابادة فثمة مسألة استراتيجية لا بدّ من التنويه بها: أهل غزة في غالبيتهم الساحقة لا ولن يغادروا أرضهم وكذا الأمر لأهل الضفة ولأهالي القدس.. فرغم الابادة لن يهجر الفلسطينيون ما تبقى من أرضهم كما حصل ذلك في السنوات الأولى لتأسيس دولة الاحتلال..
هنالك اليوم أكثر من 14 مليون فلسطيني يعيش نصفهم في المهجر ولكن الحلم الصهيوني بمواصلة التهجير الطوعي أو القسري لن يحصل كما أن توافد أعداد هامة من المهاجرين اليهود الى اسرائيل لن يتواصل وهكذا سيبقى فوق أرض فلسطين التاريخية أكثر من 15 مليون نسمة بشكل متناصف تقريبا بين العرب واليهود..
هذا المعطى الديمغرافي هام للغاية بالنسبة لمستقبل القضية الفلسطينية اذ لا يمكن للمشروع الاستعماري الاستيطاني الاحلالي الصهيوني أن يطمئن للمستقبل ما دام السكان الأصليون يمثلون نصف سكان هذه الأرض. وما نتوقعه أن يعمل كل قادة الاحتلال اليوم وغدا على تغيير هذا التوازن الخطير على مستقبلهم بشتى الوسائل: الابادة الجسدية والتهجير القسري أو الاغراء المالي بالتهجير الطوعي..
الأمر مرتبط في النهاية بالارادة الشعبية الفلسطينية فلو هاجرت أعداد هامة أرض الأجداد في العقود القادمة سيكون مصير الفلسطينيين شبيها بمصير الأمم والشعوب الأصلية في القارة الأمريكية ولا سيما في جزئها الشمالي، أما لو تمسك الفلسطينيون بأرضهم للأجيال القادمة فلن تستقر دولة الاحتلال على المدى الاستراتيجي مهما كانت ترسانتها العسكرية وقوتها الابادية،،
مسألة ثانية ستسهم في تحديد مستقبل فلسطين في السنوات والعقود القادمة وهي القدرة - من عدمها - على توحيد كل القوى من أجل مشروع وطني تحرري..
لا وجود لمقدسات مطلقة هنا فالأساسي هو المقاومة والمقاومة ثم المقاومة بغض النظر عن أشكالها سياسية كانت أم عسكرية ولكن المهم أن تكون المقاومة شعبية وأن يتوحد حولها كل الفلسطينيين..
لقد رأينا في الحلقة الثانية أنه كان بامكان الفلسطينيين هزيمة المشروع الاستعماري البريطاني والاستيطاني الصهيوني لو توحدت كل القوى الفلسطينية.. الفرقة مؤذنة بالهزيمة دوما في كل حالات ومراحل التحرر الوطني..
ولكن الوحدة في المقاومة تستوجب أيضا وحدة هدف المقاومة وهنا مربط الفرس ومكامن الخطر اذ الأهداف الفلسطينية اليوم تتراوح بين من يدعو للتفاوض الكلاسيكي من أجل رقعة ترابية محدودة يسمونها «دولة» منزوعة السلاح وبين من يريد تحرير كامل فلسطين بقوة السلاح..
لو استمر الأمر هكذا لن يتمكن الفلسطينيون من التأثير على موازين القوى الدولية ولن يحققوا مكاسب سياسية ملموسة تبعث الأمل في صفوف الملايين المتشبثين الى اليوم بأرضهم..
لا ندّعي - ولا يحق لنا - أن نحدد أهداف المقاومة الفلسطينية فأهل فلسطين أدرى بشعابها ولكن يبدو لنا أن هنالك نافذة تاريخية يمكن استغلالها لرفض القبر النهائي للحق الفلسطيني وهي القبول الوطني الفلسطيني بقرار التقسيم لسنة 1947 مع تعديله بما يعطى نصفين دون انقطاع ترابي لقيام دولتين، مع التركيز على الدولة كاملة السيادة باطلاق.. ومع ضمان دولي تساهم فيه الدول الكبرى للجنوب الكلي لارغام دولة الاحتلال على الانحسار التام داخل هذا النصف فقط لا غير..
انها دون شك تضحية كبرى تاريخية لو قبل الفلسطينيون بها لأنهم سيخسرون بذلك نصف أرضهم وحقهم التاريخيين ولكننا - في صورة اعتماد هذه الاستراتيجيا - نخرج للعالم بحل لا ولن ترضاه دولة الاحتلال وداعميها ولكنه يمكن أن يحشد حوله هذا الرأي العالمي المساند لفلسطين اليوم علاوة على احتمال توحيده للصف الفلسطيني ووضعه لهدف صعب للغاية ما في ذلك من شك ولكن النضال من أجله بكل الوسائل فلسطينيا وعربيا ودوليا قد ييسر بعد فترة ما شروط امكانه وتحقيقه وينزع عن الكيان المحتل حجته المركزية لاستدار العطف الغربي وهي أن الفلسطينيون والعرب يريدون القضاء عليه كلية.. ستصبح الصورة تدريجيا هي قبول الفلسطينيين بالتضحية بنصف الأرض (لا أكثر من ذلك مطلقا) من أجل اقامة دولة فلسطينية ممتدة ترابيا وكاملة السيادة..
نعلم كل الحواجز الضخمة ضدّ هذه الفكرة منذ أن دعا إليها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة فلسطينيا وعربيا ودوليا، ولكن من حق الشعوب على قادتها في مراحل التحرر الوطني اقتراح آفاق ممكنة ولو بعد أجيال من أجل تحقيق انتصار فعلي ودائم..
نحن لا نفكر مطلقا بدلا من الفلسطينيين ولكن نريد التفكير معهم ونسندهم أيا كان الأفق الذي يتفقون عليه.
انتهى