القضية الفلسطينية والمنعرج التاريخي: II- في الاستعمار والمقاومة

التاريخ يعيد نفسه أحيانا مرتين أو أكثر وهو يعود

في الوضعية الحالية للقضية الفلسطينية في شكل مأساة متعاظمة ومتفاقمة وكأن توني بلير بتوجيه مباشر من دونالد ترومب يريد أن ينهي ما بداه وزير خارجية الامبراطورية البريطانية سنة 1917 اللورد بلفور ووعده الشهير الذي كان ايذانا بالشروع في افتكاك فلسطين من أهلها وسكانها وأهدائها للحركة الصهيونية.

فلسطين هي قصة احتلال استيطاني إحلالي ابادي لا تعود فقط الى نكبة 1948 أو هزيمة 1967 أو الابادة الجارية أمام أعيننا منذ سنتين.. إن مأساة فلسطين تعود الى حوالي 150 سنة وفق مخطط استعماري فريد من نوعه فهو الوحيد - فيما نعلم - لم تقم به دولة ولم تدعمه في بداياته دولة معينة ثم أضحى بعد قليل أداة للدول العظمى بدءا ببريطانيا وصولا الى أمريكا مع أدوار هامة لبقية الدول العظمى بما في ذلك الاتحاد السوفياتي (نعم!).

اننا ازاء مأساة نسجت قصتها على نمط الاستعمار البريطاني في الوسائل أما أهدافها فهي على شاكلة الاستعمار الابادي الأوروبي لما كان يسمّى بالعالم الجديد (الأمريكيتان اليوم)..

جل عناصر هذه المأساة معروفة عند المؤرخين المنصفين والمثقفين المهتمين بالشأن الفلسطيني ولكن بعض خيوطها الناظمة لم تتحول إلى ما يسمى بالثقافة العامة وهي مجهولة لدى أمم وشعوب كثيرة ومهمة الإسناد الفكري لحق الفلسطينيين في أرضهم السليبة هو تحويل الحقائق التاريخية المرتبطة بقصة هذا الاستعمار الاستطاني الاحلالي الابادي إلى ثقافة عامة متاحة ومبسطة لشباب وشعوب العالم اليوم.

تبدأ تراجيديا فلسطين مع سبعينات القرن التاسع عشر حيث بدأت تنطلق من أوروبا - وخاصة جانبهاالشرقي - أفواج من المهاجرين اليهود إلى ما يعتبرونه أرض الميعاد أي فلسطين..

هنا لابد من توضيح أمر رئيسي: هجرة اليهود - وأحيانا الهروب - من أوروبا في أوارخر القرن التاسع عشر كانت أساسا بدواعي الهروب من المذابح المنكرة التي كانت تستهدفهم في روسيا القيصرية وفي بلدان عدة من أوروبا الشرقية وكانت وجهتهم الأساسية الى حدود الحرب العالمية الثانية نحو الولايات المتحدة الأمريكية..

الهجرة الى فلسطين كانت في بدايتها (أي سبعينات القرن التاسع عشر) فردية أو في مجموعات صغيرة ودواعيها كانت مع الهروب من معاداة السامية العنيفة في أوروبا تكتسي طابعا دينيا فقط لا غير..

نشأت الحركة الصهيونية سنة 1882 كردة فعل على المذابح الأوروبية ولكنها استبطنت كذلك المعايير الأوروبية المهيمنة آنذاك فخلقت أيديولوجيا علاقتها بالديانة اليهودية هي علاقة توظيف وتحشيد فقط.

تقوم «البدعة» الصهيونية في بدايتها في القرن التاسع عشر على مقولتين أساسيتين:

اليهود ليسوا مجموعة دينية تتوزع على أوطان وشعوب ماعددة بل هم شعب واحد بالمعنى العرقي للكلمة شعب تم تشريده من قبل الامبراطورية الرومانية في الحرب اليهودية الثالثة سنة 73 للميلاد وأن هذا الشعب الواحد يستحق اليوم (أي في نهايات القرن التاسع عشر) أرضا تكون له بمثابة الوطن..

هذا هو جوهر الكتيّب الذي أصدره سنة 1896 مؤسس الصهيونية السياسية تيودور هرتسل والذي عنونه بـ «دولة اليهود» والذي نجد فيه البرنامج العام الذي سيقود الحركة الصهيونية على امتداد العقود الأولى للقرن العشرين...

يتساءل هرتسل: ما هي الأرض التي ستتأسس عليها «دولة اليهود»؟ ويطرح هنا فرضيتين اثنتين: الأرجنتين أو فلسطين باعتبار الأهمية النسبية للهجرة اليهودية خلال العقود الأخيرة للقرن التاسع عشر ويقول أن الأرجنتين أرض ممتازة وممتدة لو قبلت حكومتها ببيعنا أرضا كافية لهذا الوطن الجديد ولكن هرتسل العلماني يعلم الوقع الديني لفلسطين ويقترح في كتابه شراءها كلها أو أجزاء منها من السلطة العثمانية مقابل خلاص كامل ديون الباب العالي.. ولكن نعلم فيما بعد أن السلطان عبد الحميد الثاني، آخر سلاطين الخلافة العثمانية، قد رفض بشدة كل العروض الصهيونية كما أن الدولة التركية العلمانية الوريثة للخلافة العثمانية كانت محترزة كثيرا من الحركة الصهيونية ومن أهدافها..

المهم في كتاب هرتسل ليس فقط البعد الأيديولوجي الأوروبي للصهيونية: دولة قومية لشعب واحد بل تصوره لامكانية التحقيق التدريجي لما كان يبدو آنذاك حلما طوباويا بعيد المنال..

بداية دولة اليهود هي مصلحة استراتيجية للدول الغربية الكبرى: يقول هرتسل: «بالنسبة لأوروبا (لو تحقق وطن يهودي في فلسطين) سنكون هناك جزءا من الحصن ضدّ آسيا، سنكون الحارس المتقدم للحضارة ضدّ البربرية».

ويدرك هرتسل أن الهجرة الكثيفة لليهود في الأرجنتين أو فلسطين أو غيرهما سينتج عنهما حتما رفض شديد من الأمام ولهذا يحتاج الحلم الصهيوني لحماية الدول القوية في أوروبا (أي عمليا احدى الامبراطوريتين البريطانية أو الفرنسية).

ولانجاز هذا المشروع بنجاح يقترح هرتسل انشاء وكالة تعمل على شاكلة الأداة الرئيسية للاستعمار البريطاني في آسيا: شركة الهند الشرقية البريطانية أي وكالة تهتم بتنظيم هذه التدفقات البشرية بإبرام صفقات مع الدول ومع الجهات والأشخاص قصد البيع الجيد لممتلكات المهاجرين في أوربا ثم اقتناء الأراضي بأثمان معقولة في بلد الموطن اليهودي.

توفي هرتسل رئيس المؤتمر الصهيوني سنة 1904، وعملت الحركة الصهيونية منذ مؤتمرها الأول في بال السويسرية سنة 1897 الى تنفيذ خطة مرتسل باختيار فلسطين كأرض للهجرة اليهودية وبتنظيم هذه الهجرة التي بدأت أعدادها تتزايد بشكل لافت حتى قبل وعد بلفور بانشاء وطن قومي لليهود في فلسطين سنة 1917.

في سنة 1880 كان عدد اليهود في فلسطين يناهز 25000 نسمة وهم من اليهود الشرقيين المتواجدين هناك منذ القدم..

بين 1882 و 1903 هاجر إلى فلسطين قرابة 20000 أو 30000 من اليهود الروس وتلاهم ما بين 1903 و1914 حوالي 40000 مهاجر جديد.

نجحت الحركة الصهيونية منذ السنوات الأولى للقرن العشرين باستمالة شخصيات نافذة في الدول الأوروبية الكبرى وكان نجاحها الأكبر في بريطانيا إلى اصدار وزير خارجيتها اللورد بلفور وعدا سنة 1917 بانشاء وطني قومي لليهود جاء فيه «تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى اقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر..»

هذا هو النص الكامل لوعد بلفور كما أورده المؤرخ الفلسطيني الشهير رشيد الخالدي في كتابه «حرب المائة عام على فلسطين، قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 2017-1917» والذي صدر في طبعة تونسية في نوفمبر 2023 عن «دار سراس».

صدر هذا الوعد وفلسطين مازالت تحت الحكم العثماني ولكن بعد الاتفاقيات السرية بين الامبراطوريتين الاستعماريتين فرنسا وأوروبا سنة 1916 المعروفة باتفاقيات سايس/بيكو والتي تم بمقتضاها اقتسام تركة «رجل أوروبا المريض» وقد تم الاتفاق على منح فلسطين والعراق والأردن إلى الانقليز مقابل استحواذ فرنسا على لبنان وسوريا.

منذ 1917 أصبح للمشروع الصهيوني دولة عظمى تحميه وترعاه وتدعمه في سعيه لا فقط لانشاء وطن قومي لليهود بل لتحويل هذا الوطن الى دولة قائمة الذات.

توسع دعم القوى العظمى الأوروبية عند المصادقة على صك الانتداب على فلسطين من قبل عصبة الأمم المتحدة سنة 1922 حيث نصّت المقدمة ومواد عدة على موافقة الدول المصادقة على وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود وعلى ذكر الوكالة اليهودية والجمعية الصهيونية في المادة الرابعة والاعتراف بهما كهيئتين ملائمتين لاسداء المشورة الى إدارة فلسطين وللسهر على مصالح اليهود في فلسطين وأما السكان الأصليون من مسلمين ومسحيين فلا يتم ذكرهم بالمرة ويوصفون بأنهم من «فئات الأهالي الأخرى».

ونتيجة كل هذا أن تحولت نسبة السكان اليهود في فلسطين كما يقول رشيد الخالدي من 6 ٪ إثر الحرب العالمية الأولى إلى 18 ٪ سنة 1926 ثم أصبحت تضاهي حوالي الثلث خاصة بعد صعود النازيين إلى الحكم في ألمانيا وتشجيعهم في السنوات الأولى على الهجرة اليهودية بالاتفاق مع المؤتمر الصهيوني مقابل امتيازات مالية.

عملت الحركة الصهيونية الى عملية شراء مكثفة للاراضي التي هجرها أصحابها في الحرب العالمية الأولى بتشجيع قوي من سلطة الانتداب البريطانية وأصبحت تمثل ما يشبه الدولة داخل سلطة الانتداب بفضل ضخ الأموال وبدأ في انشاء مليشيات مسلحة استعدادا ليوم الحسم...

لم يكن الرد العربي الفلسطيني قويا مع ظهور الاستيطان اليهودي.. لقد كان هنالك غضب متزايد من هذا التحول الديمغرافي الخطير لكن وسائل الرد كانت تقليدية وضعيفة الى حدّ ما خاصة في السنوات العشرين من القرن الماضي وذلك رغم وجود وعي واضح بالخطر الحيوي والذي عبّر عنه آنذاك مثقفون وسياسيون عديدون..

وضع المقاومة الفلسطينية للمشروع الصهيوني البريطاني في بدايته لم يكن مختلفا عما حصل في عدة دول عربية وإسلاميةوجاهات تقليدية تتزعم المقاومة عبر مفاوضات مع سلطة الاحتلال.. نخب يتم تسويفها ربحا للوقت ولبقائها معزولة عن عموم الشعب وفي فلسطين كان هذا السلوك مضرا للغاية اذ سمح للمشروع الصهيوني بالتوسع والتمدد لفترة غير قليلة ثم تدعمت المقاومة الشعبية وتحولت القيادة جزئيا من الوجاهات الى نخب جديدة دعت في فلسطين الى الكفاح المسلح ضدّ الاستطان الصهيوني والانتداب البريطاني وكان أحد أبرز هذه القيادات الجديدة عز الدين القسام الذي كون مجموعات مقاتلة في بداية الثلاثينات وقد قامت هذه المجموعات بعمليات فدائية عديدة وكان شعار عز الدين القسام «إنه الجهاد نصر أو استشهاد» وهو الشعار الذي تبنته بعد عقود كتائب القسام الجناح المسلح لحركة حماس.

استشعرت سلطة الانتداب بالخطر الذي يمثله القسام على الاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني ونصبت كمين لها اذ تواترت عمليات القساميين وتمثلت خطورة القسام أنه تمكن من حشد الطبقات الشعبية مخترقا بذلك الأدوار التقليدية للوجاهات والذي رفضوا الالتحاق بحركة الثورة..

بعد محاولات عدة تمكنت قوات الانتداب من نصب كمين للشيخ عز الدين القسام في نوفمبر 1935 حيث حاصرته هو ومجموعة من رفاقه وبعد طلق نار كثيف تواصل لساعات استشهد عز الدين القسام وكان ذلك الشرارة التي اطلقت الثورة الفلسطينية الكبرى التي استمرت زهاء ثلاثة سنوات من 1936 الى 1939.

لقد وجدت بريطانيا والمليشيات الصهيونية صعوبات جمة في اخماد هذه الثورة المسلحة التي اشعلت كامل أرض فلسطين ورغم غياب رمز القيادة فقد تمكن الفسطينيون من تحقيق انتصارات مهمة ولكن قوات الانتداب حشدت مائة ألف جندي لقمع هذه الثورة التي وصف تفاصيلها كتاب عديدون فلسطينيون (كغسان كنفاني ورشيد الخالدي وغيرهم) كما خصص له أستاذ التاريخ العسكري ماثيو هيوز كتابا ضخما عنوانه بالعربية « الاستعمار البريطاني واجهاض الثورة العربية في فلسطين 1939-1936» الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية سنة 2021.

يقول رشيد الخالدي أن عدد القتلى والجرحى والمبعدين الفلسطينيين خلال هذه السنوات الثلاث قد بلغ 10 ٪ من الذكور القادرين على حمل السلاح..

لقد أدت الامبراطورية البريطانية خدمة عظمى للحركة الصهيونية بتصفيتها لهذه الثورة المسلحة اذ أصبحت الطريق سالكة للاستيطان الصهيوني لتحويل هذا «الوطن القوي» لما يشبه دولة قائمة الذات ورغم التراجع النسبي لدولة الانتداب وخشيتها من خسارة كل مستعمراتها في البلدان العربية والاسلامية واصدارها لكتاب أبيض سنة 1939 حاولت من خلاله فرض بعض القيود على الهجرة اليهودية لكن قضي الأمر خاصة عندما دخل الدعم السياسي الأمريكي على الخط منذ الحرب العالمية الثانية ومباشرة بعدها تم اقرار تقسيم فلسطين و«إهداء» 56 ٪ من مساحاتها لانشاء دولة اسرائيل بدعم من القوتين المنتصرتين وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وهنا حصلت النكبة: فمن 30 نوفمبر 1947 الى اعلان قيام دولة اسرائيل في 15 ماي 1948 أي خلال تلك الحرب التي خاضها الفلسطينيون والعرب دون استعدادات لها تم تهجير وطرد 300000 فلسطيني من ديارهم وبعد اعلان قيام الدولة العبرية التي توسعت الى ما يمثل حوالي 80 ٪ من فلسطين التاريخية تم طرد 400000 فلسطيني آخرين في أحد أكبر المظالم التاريخية في القرن العشرين.

أردنا بهذه العودة السريعة للتاريخ تبيان أن الغاء الوجود الوطني الفلسطيني لم يبدأ مع 7 أكتوبر ولا حتى مع قيام الدولة العبرية بل هو نتيجة آلية لمخطط استعماري استيطاني إحلالي (أي إحلال «شعب» مستورد مكان الشعب الأصلي) وأنه طابعه الابادي الذي أخذ بعدا مأساويا كارثيا خلال هاتين السنتين انما هو عنصر قار في الاستراتيجيا الصهيونية منذ حوالي القرن ونصف القرن حتى وإن كان يتخفى في البداية نتيجة عدم امتلاكه عناصر القوة والدعم الغربي، اما عندما امتلكهما أصبح مخططه مكشوف منذ ما يزيد عن مائة عام.

قد يظن العديدون في العالم أن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني انما يتمثل في «المستوطنات» اليهودية فقط وينجم هذا الخلط من تقارب مصطلحي الاستعمار (Le colonialisme) والمستوطنات (les colonnies) في اللغات اللاتينية ولكن الأمر يتعلق بما هو أعمق بكثير فالدولة العبرية هي الاستعمار الاستيطاني الاحلالي الابادي وهذا هو اليوم جوهر الصراع معها، فهو ليس صراعا ضدّ ديانة بل صراع ضدّ نفي الحق الطبيعي لشعب على أرضه وإن أدى ذلك الى ابادته عبر القتل والتجويع ومحاولات التهجير.

يتبع

الحلقة الثالثة والأخيرة:

III - أي مستقبل ممكن لفلسطين؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115