الأمية في زمن التمدرس الشامل مفارقة المدرسة التونسية

تكشف بيانات التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2024

عن صورة مركبة للتعليم في تونس، صورة تتداخل فيها الإنجازات مع تحديات عميقة لم تجد بعد طريقها إلى الحل. فمنذ الاستقلال، وضعت سياسات عمومية تجعل من التعليم قلب المشروع الوطني، وهو ما قاد إلى باستطراد الى ارتفعت نسب التمدرس وتقليص الأمية، وهو ماتقدمه ارقام الاحصاء الاخيرة ولكنها ايضا تعلمنا بان التقدّم الكمي المحقق لم يتحول بالضرورة إلى قفزة نوعية تضمن العدالة المجالية والجندرية وتربط المدرسة بسوق العمل.

لتبدو الصورة للوهلة الأولى مشرقة ان تعلق الامر بمنظومتنا التعلمية، فنسبة التمدرس في الفئة العمرية بين 6 و14 سنة بلغت 97.3 %، ما يجعل تونس على أعتاب التعميم شبه الكلي للتعليم الأساسي. والأكثر دلالة ورمزية ان نسبة التمدرس لدى الفتيات تجاوز اقرانهم من الفتيان سواء في المدن او الأرياف، وهو مكسب تاريخي يعكس تغيّراً في البنية الاجتماعية ويؤكد أن معركة المساواة داخل المدرسة قطعت أشواطاً حاسمة.

لكن خلف هذه الصورة المثالية ، تكمن ثغرات لا تخطئها العين فـ4.5 % من الأطفال بين 6 و16 سنة هم خارج المنظومة التعليمية، من بينهم 1 % لم تطأ أقدامهم المدرسة أصلاً. في حين ينقطع 3،5 % منهم عن التعليم سريعا ليتضاعف الرقم لدى المراهقة،ويبلغ 8.1 % ، وهي نسبة ترتفع في ولاية القيروان والمهدية والقصرين.

وهنا تظهر الهشاشة في أوضح صورها، إذ تنكشف حدود قدرة المدرسة على استبقاء أبنائها حين تشتد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية على اسرهم لتدفعهم الى خارج المنظومة مما ينجر عنه ان بعضهم ينتكس ليلتحق بخانة الامية، التي وان تراجعت إلى 17.3 %، بعد كانت في العقدين الماضيين تقدر بحوالي 21 %، وهو ما يعنى اننا ازاء تحسن مقارنة بما كانت عليه في العقود السبعة الماضية، خاصة ان نظرنا الى نسبة الامية قبل الاستقلال والتي كانت تقترب من عتبة 80 %.

هذا التحسن في النسب لا يجب ان يخفي حقيقة ان النسبة الحالية للامية في تونس تظل مرتفعة ومؤشر سلبي خاصة ان نظرنا اليه مع ما يعلنه المجتمع والدولة تعميم التعليم والمراهنة عليه، سواء للافراد او للمجموعة. والصورة تزداد قتامة ان نظرنا اليها بمقاربة جندية، فالفجوة بين النساء والرجال ما تزال قائمة لم تتقلص فـ 22.3 % من النساء أميات مقابل 12 % من الرجال، كما ان الفجوة الجهوية ظلت كما هي اذ تتجاوز نسبة الامية 25 % في ولايات مثل جندوبة وسيدي بوزيد والقصرين والقيروان وسليانة.

لكن المؤشر الذي وجب الانتباه اليه انه بين الأطفال أنفسهم، لا تزال الأمية موجودة بنسبة 4.7 % في الفئة العمرية 10 - 14 سنة، وهو ما يطرح أسئلة تتعلق منظومتنا التعليمية سياساتنا العمومية القائمة على إلزامية التعليم ومجانيته، والبحث كيف ان المدرسة ورغم نجاحها فانها تعثرت في منع انتكاسة 3 % من الأطفال التونسيين وعودتهم الى صفوف الامية.

في انتظار الإجابة عن هذا السؤال، يمكننا النظر الى ما إمتلاء من لكأس، وهنا يمكننا النظر الى الجامعة التونسية ومؤسسات التعليم العالي التي تكشف ان البلاد قطعت اشواط كبيرة في علاقة بافراز جيل من مخريجي الجامعات وحملة الشهائد العليا، اذ ان 1.34 مليون تونسي وتونسية تخرجوا من مؤسسات التعليم العالي، بفروعه الثلاثة، وهؤلاء 57.4 % منهم نساء، يتفوق على الرجال في كل الاختصاصات معدى الهندسة.

هذا التميز للاسف يكشف عن خلل، فالمؤشرات الكمية التي يقدمها الإحصاء تبين لنا اننا ازاء اختلالات سواء في توزيع التخصصات الأكاديمية التي يمكن القول عنها انها غير متوازنة ولا تتلاءم مع متطلبات واقعنا اليوم، من ذلك رقم قد يكون له دلالة ورمزية وهي ان نسبة المهندسين (كل الاختصاصات) هي 8 % وهذا لا يتماشى مع سوق قائم على اقتصاد المعرفة والتكنولوجيا والمهارات الرقمية.

هنا لابد من الانتباه الى ان الصورة العامة ليست مجرد نسب جامدة. بل هي مؤشرات تتفاعل في ما بينها لتقدم لنا صورة عن تونس ومستقبلها، صورة مركبة اذ تبرز اننا امام جيل جديد متعلم تكاد نسبة التمدرس الخاصة به تبلغ 100 % التميز فيها للمرأة مع امتلاكه لمهارات رقمية ولغوية، مقابل النصف الآخر للصورة وهو جيوب أمية عميقة في الداخل، وانقطاع مدرسي يهدد المراهقين، وتفاوت مجالي صارخ بين المدن والأرياف وبين الجهات.

صورة تنتج مفارقة، فتونس البلاد التي تراكم الأرقام الإيجابية لم ينجح بعد في تحويلها إلى عدالة وجودة ومردودية اقتصادية. وهو ما يجعلنا اليوم ندرك ان المطلوب ليس الاحتفال بالكم، بل التفكير في النوع. فتونس تقف اليوم أمام مفترق طرق، إما أن تحوّل مكاسبها التعليمية إلى رافعة تنموية حقيقية، أو تظل حبيسة إنجازات كمية لا تلبي طموحات شعبها ولا تتماشى مع رهاناتها اليوم

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115