القضية الفلسطينية والمنعرج التاريخي: I - معارك الأفكار والتاريخ

عادة ما يستعمل وصف «التاريخ» في غير موضعه

وتظهر الأيام أننا كنا أمام حدث عادي عابر ولكن وأيا كان تقييمنا لما يحدث في غزة وفي العالم اليوم فلا شك لدى جلّ سكان المعمورة اليوم أن القضية الفلسطينية هي القضية الدولية الأساسية بعد أن كاد النسيان يغمرها قبيل سنوات قليلة.

وعندما نتحدث عن منعرج تاريخي فنحن لا نتحدث عن مآل إجابي ضرورة، فالمستقبل لم يكتب بعد وامكانات مفتوحة على الأقصى اليوم، بما في ذلك المآلات السلبية..

يتمثل «المنعرج التاريخي» أساسا في وعي جزء هام من سكان المعمورة وبالظلم والاضطهاد الذي لحق ويلحق بالفلسطينيين عامة وبحرب الابادة المجرمة في غزة منذ ما يقرب من السنتين.. وصور الخراب والدمار والأشلاء لا يمكن أن تمحي من ضمير العالم.. ولكن هذا المنعرج المسنود أخلاقيا اليوم يحتاج لمعارك عديدة مضنية من قبل الفلسطينيين أولاً والعرب والمسلمين ثانياً وكل الضمائر الحرة في العالم ثالثاً، ليتحول الى بداية طريق جديدة لاسترداد الحق الفلسطيني ولو بصفة جزئية.

موجة الاعترافات الأخيرة بالدولة الفلسطينية هامة ولا شك ولكنها لن توقف لوحدها حرب الإبادة كما أنها لن تضمن إستعادة الحق الفلسطيني ولو جزئيا، اليوم هنالك 158 دولة تنتمي للامم المتحدة تعترف بالدولة الفلسطينية، مقابل 35 دولة فقط لا تعترف الى حد اليوم بها أي ان الاعتراف الدولي بفلسطين يمثل حوالي 80 ٪ من مجموع دول العالم وهذا هام في حد ذاته ولكنه لايسمح لوحده باسترداد الحق السليب ما دامت القوة الغاشمة الأمريكية والصهيونية بلا رادع جدي.. بل هنالك من يردف في اعترافه بدولة فلسطين بتصفية القضية تصفية نهائية..

حق بلا قوة تسنده لا معنى له في أرض الواقع رغم أهميته الأخلاقية والقيمية ولكن القضية الفلسطينية لا تحتاج فقط إلى قوة حامية ولكن أيضا إلى ربح معركة الأفكار والقيم على مستوى دولي كشرط ضروري -دون أن يكون كافيا- لسلوك الطريق المؤدية لتحويل الحق الفلسطيني إلى واقع ملموس.

المعارك الفكرية والقيمية كثيرة في هذا الاتجاه نكتفي هنا بذكر معركة أساسية لا تضطلع بها اليوم إلا قلة قليلة من المفكرين والمؤرخين (جزء هام منهم من اليهود) ولكن لا تصل هذه الأبحاث والأصوات الى عموم الرأي العام الدولي وحتى العربي والإسلامي..

المعركة الفكرية الأولى والأهم اليوم هي تفكيك مختلف السرديات التي تتأسس عليها دولة اسرائيل وبيان تهافتها التاريخي قديما وحديثا..

الأساس الأهم في الشرعية التي تدعيها الدولة العبرية هو وجود شعب يهودي (ينبغي هنا التشديد على مفهوم شعب) منحه الله أرض فلسطين بقيادة النبي موسى الذي أخرج بني اسرائيل من مصر حوالي 16 قرنا قبل المسيح حسب الرواية التوراتية، وبعد حروب وانتصارات و ،هزائم تم اجلاء الشعب اليهودي من أرضه بعد الحرب اليهودية الرومانية الثالثة سنة 73 ومنذ تلك الفترة يمني الشعب اليهودي نفسه بالعودة الى أورشاليم (القدس) الى أن تمكن من ذلك عبر مراحل في القرن العشرين بدءا بوعد بلفور سنة 1917 بموطن قومي لليهود الى قرار تقسيم فلسطين التاريخية سنة 1947 الذي سمح بانشاء دولة اسرائيل ثم حروب «التحرير» التي خاضتها الدولة العبرية لاسترداد أرض يهودا والسامرة والتي تتجاوز حدود «اسرائيل» المعترف بها اذ تمتد الى كامل الضفة الغربية ثم حلم اسرائيل الكبرى، حسب منظري الصهيونية الدينية والتي تمتد من النهر الى النهر: نهر مصر من جهة والفرات من جهة أخرى..

في المحصلة ترتكز الشرعية التاريخية للكيان الصهيوني على عودة الشعب اليهودي الى أرضه التي أطرده منها الرومان منذ حوالي ألفي سنة..

ينبغي أن ندرك أن هذه السردية التي انتجتها الحركة الصهيونية منذ نهايات القرن التاسع عشر تجد مقبولية معينة لا فقط عند أصحابها بل وعند أجزاء هامة من شعوب الأرض لأنها ترتكز على ما يبدو أنه من مسلمات التاريخ «الشعب» اليهودي عاش لمدة أكثر من ألف سنة على أرض فلسطين ثم أطردهم الرومان منها وباعتبارها أرضهم الأصلية وأرض مقدساتهم فلهم اذن حق «العودة» إليها..

وهذه الرواية تجد أيضا بعض الصدى ولو كان ضعيفا عند المسلمين على الأقل على مستوى عناصر من السردية التاريخية ثم ندخل في خانة التوصيف الديني واعتبار أن ترحيل اليهود كان عقابا ربانيا مستحقا..

المعركة الفكرية الضرورية هنا والتي بدأها مؤرخون ومفكرون أوروبيون وعرب وبعض الاسرائيليين أنفسهم تقضي أولا باستبعاد المعتقدات الدينية باطلاق من هذا الصراع سواء كانت يهودية أو اسلامية أو مسيحية لأن المعتقد الديني حتى عندما يتأول التاريخ هو مقدس عند أصحابه ولا يعني شيئا يذكر عند خصومه والبقاء داخل اطاره لا يخدم العلم ولا يخدم أصحاب القضية الوطنية العادلة بل يخدم اليوم فقط عتاة أنصار الصهيونية الدينية داخل الأرساط اليهودية ودوائر المسيحية الانجيلية المتطرفة والذين يمثلون جزءا هاما من أنصار ترامب اليوم.

شرط امكان المعركة الفكرية لنصرة الحق الفلسطيني هو الخروج من دائرة المقدس الديني عند الجميع وسلوك نهج النقد التاريخي العلمي داخل الثقافة اليهودية وخارجها أيضا..

هنالك أعمال تاريخية هامة قام بها مؤرخون يهود ونذكر منهم هنا الكتاب الحدث لعالمي الآثار والتاريخ اسرائيل فنكلشتاين (رئيس قسم الآثار في جامعة تل أبيب) ونيل آشر سيلبرمان (مؤرخ وباحث أمريكي) تحت عنوان قد تكون ترجمته الأدق «التوراة مكشوفة» وقد صدر الانڤجليزية سنة 2001 وتمت ترجمته الى الفرنسية سنة 2002 تحت عنوان «La Bible dévoilée» وحصلت مؤخرا ترجمته الى العربية تحت عنوان « التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها» عن دار «صفحات» ولسنا ندري هنا مدى دقة الترجمة العربية للكتاب الأننا لم نطلع عليها ولكن الواضح من مقدمة المترجم سعد رستم أنه منخرط بوضوح في السجال الديني وليس هذا مطلقا مرادنا من التنويه بهذا الكتاب الهام للغاية.

تقوم فكرة الكتاب الأساسية على استخراج ما يمكن اعتباره أحداثا تاريخية في التوراة لقصص الأنبياء وملوك بني اسرائيل ومقارنة الرواية التوراتية بآخر مستجدات علم الآثار وبكل الحفريات التي حصلت في العقود الأخيرة من القرن العشرين سواء داخل فلسطين التاريخية أو في صحراء سيناء التي استولت عليها الدولة العبرية في حرب 1967 ثم اعادتها الى مصر بصفة كلية سنة 1982 بمقتضى اتفاقيات كامب ديفد.

ماذا افرزت المقارنات بين القصص التوراتية وحقائق التنقيب والآثار والتاريخ؟ إما عدم التطابق الكلي كقصة خروج بني اسرائيل من مصر والتيه أربعين سنة في سيناء.. اذ لا أثر مطلقا لهذه المروية في كل الحفريات التي جدت في صحراء سيناء على امتداد سنوات الاحتلال الصهيوني كما لا أثر لهذه القصة في كل الآثار الفرعونية ويرى الباحثون أن البحث عن أصل لبني اسرائيل من خارج محيطهم الديمغرافي زمن تدوين التوراة (أي حوالي القرن الخامس قبل الميلاد) هو فقط لاحداث التمايز لا فقط الديني بل والعرقي والاثيني كذلك وأنه لا شيء يثبت تاريخيا هذا الأصل من وراء الصحراء والبحار...

والأمثلة في هذا الكتاب عديدة على عدم التطابق الكلي أو الجزئي للسردية التوراتية عندما تفهم على حرفيتها واكتشافات علوم الآثار والتاريخ..

إن اعتبار التوراة ككتاب تاريخ حقيقي انما هو ركيزة من ركائز الصهيونية الدينية اليهودية والمسيحية على حد سواء وهي تمثل بالتالي الأساس الرئيسي للشرعية الدينية لقيام دولة اسرائيل والواضح أن التفكيك التاريخي العلمي لهذه الشرعية المزعومة لا يقصد منه تبخيص التوراة أو الديانة اليهودية بل بيان الزيف الايديولوجي للصهيونية.. هذا من حيث النقد التاريخي من داخل الفضاء الثقافي اليهودي ان شئنا أم النقد التاريخي من خارجه وقد قام به مؤرخون ومثقفون يهود أيضا فهو أشد وقعا في ضرب أساس الأسس وهو حول حقيقة وجود «شعب» يهودي من عدمه..

الكتاب الشهير للمؤرخ الاسرائيلي شالومو صاند «اختراع الشعب اليهودي» حسب الترجمة العربية و «كيف تم اختراع الشعب اليهودي» وفق الترجمة الفرنسية فند بوضوح الأسطورة المركزية للكيان الصهيوني وهي وجود «شعب يهودي» أطرد من أرضه ثم عاد اليها بعد حوالي 19 قرنا..

الأسطورة الصهيونية تقوم على فكرة وجود شعب يهودي قبل «الدياسبورا» أي التهجير الروماني واستقرار مجموعات يهودية في مناطق شتى في العالم المعمور انذاك وان هذا «الشعب» حافظ على صفائه العرقي الى اليوم بحكم رفض تهويد غير اليهود والاشتراط الدائم ليهودية الأم مما يجعل من كل يهودي اليوم أجدادا فعليين عاشوا قبل الفي عام على «الأرض الموعودة..

يبين صاند الزيف التاريخ لهذا الادعاء لأن قبائل وشعوب عديدة اعتنقت اليهودية بعد «التشريد» يمكن أن نذكر نحن منهم اليوم بعض القبائل الأمازيغية التي اعتنقت اليهودية لمقاومة الوجود البيزنطي فالغالبية من يهود المغرب العربي لم يفدوا من فلسطين التاريخية بل هم ينحدرون من القبائل الأمازيغية التي تهودت في القرون الأولى للميلاد..

نفس الأمر شهدته أوروبا وكذلك القبائل اليهودية في الحجاز واليمن وغيرها من البلاد العربية وايران وبعض الدول الآسياوية الأخرى وأحد الأمثلة والمعروفة من قبل كل المؤرخين هو شعب الخزر «Les khazars» وهو شعب تركماني كان له حضور فاعل ما بين القرنين السابع والثالث عشر وقد تبنت دولته اليهودية كديانة رسمية ويرجح المؤرخون أن جل يهود أوروبا الشرقية ينحدرون من الخزر لا من سكان فلسطين التاريخية.

لاشك أن اليهود (كالمسيحيين والمسلمين مثلا) كانوا على امتداد تاريخهم ولكنهم لا يشعرون بالانتماء الى ديانة واحدة ولكنهم لم يكونوا يشعرون بالمرة بالنتماء الى شعب واحد بل الى شعوب عدة متفرقة والقول بوجود شعب يهودي هو بناء ايديولوجي للصهيونية التي كانت تحتاج البى حشد كل يهود العالم لتأسيس وطن يهودي..

لقد أرادت الصهيونية أن تقول أن العودة الى أرض الميعاد حق الشعب اليهودي فهي أرض الأجداد الفعليين لا الروحيين فقط أما شلومو صاند فقد بين أنه لا علاقة قومية أو عرقية البتة بين يهود اليوم والقبائل اليهودية التي كانت تعيش على أجزاء من أرض فلسطين التاريخية. والاشتراك في الديانة لا يعطي حقا لأحد في أرض ما هذا لو سلمنا جدلا بأن حق الوراثة الشخصية يمكن أن يمتد لحوالي ألفي سنة!!

لقد حصل تفكيك المروية الصهيونية للشرعنة التاريخية لوجود دولة اسرائيل ولكن هذا التفكيك الذي قام به عدد من المؤرخين في الغرب نفسه ومن عدة باحثين يهود لم يتحول الى ثقافة عامة مشاعة عند مختلف شعوب الدنيا.

إن الاهتمام الكبير اليوم بمأساة الشعب الفلسطيني الذي تبيده آلة وحشية ظالمة سيبقى للأسف دون غد ما لم يردف بمعارك فكرية وحقوقية عديدة تبين زيف قيام هذا الكيان تاريخيا وقيميا وأخلاقيا.

إن نقد الشرعية الوهمية لهذ الكيان يحتاج الى تجذير وتأصيل فكري وتاريخي دون السقوط في أوهام المعارك الدينية والمرويات الانتصارية فمعركتنا ليست أبدا ضد اليهود واليهودية بل ضد كيان غاصب وحلفائه وداعميه.. معركتنا ليست الديانة اليهودية ومعتنقيها بل ضد مشروع استعماري استيطاني احلالي لا ينبغي للضمير العالمي الحر أن يقبل به والنقد التاريخي الجذري للمروية الصهيونية هو أحد عناصر المقاومة الفكرية له

يتبع

II - في الاستعمار والمقاومة

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115