رصيد السينما الحاملة للقضية الفلسطينية، بل أصبح منذ عرضه الأول في مهرجان البندقية السينمائي (Mostra di Venezia) في دورته 82 حدثًا سياسيًا بامتياز. الفيلم، الذي يستند إلى قصة إنسانية واقعية تبدو في ظاهرها مقتطفة من مأساة الفلسطينيين، ينجح في إعادة صياغة صورة الفلسطيني في المخيال الغربي، وينقل المعركة من ميادين الدمار إلى فضاء الرموز والمعاني حيث تُحسم الحروب الحديثة. ففي سياق حرب الإبادة المستمرة على غزة وما يرافقها من حملة إعلامية ودعائية من قبل الاحتلال وداعميه، بدا واضحًا أن معركة السردية لا تقل أهمية عن المعركة العسكرية. فمحاولة الاحتلال المستمرة منذ عقود لتكريس صورة الفلسطيني «المهدد» أو «الفاعل العنيف» اصطدمت بفيلم من جنس الوثائقي الروائي، صوت هند رجب، الذي قدم الفلسطيني كإنسان يعيش تحت وطأة الاحتلال، يتابع أحلامه البسيطة، يعاني الانتهاكات، ويطالب بحقه في الحياة والكرامة. هذه النقلة النوعية منحت الفيلم أثرًا سياسيًا يتجاوز قيمته الفنية المباشرة.
أعظم ما أنجزه الفيلم ليس الفوز بالأسد الفضي، ولا تصفيق الجمهور لما يقارب 24 دقيقة بعد العرض، بل هو رد الاعتبار للبعد الإنساني المغيّب في الخطاب الغربي السائد كلما تعلق الأمر بفلسطين والفلسطينيين. وقد برز هذا بشكل جلي في المراجعات النقدية والتعليقات، منها ما نشره الناقد البريطاني بيتر برادشو في مقاله بعنوان “The Voice of Hind Rajab review – provocative docufiction is fierce, urgent and heart‑shattering” المنشور في صحيفة The Guardian بتاريخ 4 سبتمبر 2025، وكتب فيه «على الأقل بن هنية تمسك بأحد أكثر القضايا أهمية في وقتنا هذا بكلتا يديها وتجد طريقة لدفعها تحت أنوفنا..» Ben Hania is at least grabbing one of the most relevant issues of our time with both hands and finding a way to thrust it under our noses.
هذا الاقتباس جزء من مقال ناقش الفيلم وبحث تفكيكه في سياق غربي بامتياز لا ينتصر صاحبه للقضية الفلسطينية ولكنه يقر بان الفيلم فرض نقاشا عن معاناة الفلسطنين ونجح في ان ينقل جزء من المأساة الى الجمهور وسنهى حالة الانكار التي سادت وهو ما يعنى ضمنيا ان الانتقال بالانسان الفلسطيني من رقم الة قصة تروي يقدّم الفلسطينيين كأشخاص حقيقيين لهم حياة ومعاناة، لا مجرد أرقام أو رموز إعلامية.
هذا التحول، وإن بدا بسيطًا، يمثل انتصارًا دعائيًا استراتيجيًا، لأنه يعيد صياغة علاقة الجمهور الغربي بالقضية الفلسطينية ويرسخ مسار «الإنساننة» نهجًا في التعامل مع الفلسطينيين وحقوقهم، إذ يجعل معاناتهم ملموسة ومرئية عبر تفاصيل الحياة اليومية، ويجعل صوت هند رجب نفسه رمزًا لصوت أوسع، صوت الضحايا الذين غيبتهم آلة الحرب، عوضًا عن الأرقام والبيانات التي جردت الإنسان الفلسطيني من إنسانيته وحولته إلى رقم مجرد لا يمكن التعاطف معه.
ورغم أن البعض رأى في الفيلم «تبسيطًا مفرطًا» لمعاناة أكثر تعقيدًا وتشابكًا، أو اختزالًا للواقع الفلسطيني وماساته في رمزية شخصية واحدة، إلا أن هذا لا ينفي أهمية الفيلم الإعلامية والدعائية. فقد نجح عبر لقطاته ومشاهده وتوظيفه للتسجيل الصوتي الأصلي لطفلة هند رجب في نقل الوجع الفلسطيني، وتوظيف ذلك في إطار جمالية سينمائية تخدم رسالة سياسية واضحة، وهي أن الفلسطيني ليس رقمًا في نشرات الأخبار، بل إنسان كامل الإنسانية، يجب أن يُرى ويُسمع.
وهو ما يقود للقول انه لا يمكن قياس أثر هذه الرسالة إلا من خلال ردود الفعل التي أثارها الفيلم في الغرب. فقد تناقلت صحف بريطانية وفرنسية وإسبانية مقالات مطولة عنه، وأشارت بعض المراجعات إلى أن الفيلم نجح في كسر الحاجز النفسي الذي بنته عقود من دعاية الاحتلال. هنا يتحول العمل إلى أكثر من مجرد إنتاج ثقافي، إنه أداة مهمة في معركة كسب السرد، اذ ان قيمته الكبرى تكمن في أنه يمثل انتصارًا في معركة الروايات والقصص، إذ أعاد كما غيره من الأعمال الفنية والإعلامية منذ 7 اكتوبر 2023 صياغة صورة الفلسطيني لا كرقم يُعدّ في الخسائر، بل كإنسان كامل الإنسانية.
ومن خلال هذا الاختراق، يساهم الفيلم، الذي حظي بدعم عدد من نجوم هوليوود مثل براد بيت وخاكوين فينيكس، في إعادة ربط الجمهور الغربي بالقضية الفلسطينية على أسس إنسانية ووجدانية، في وقت بلغ فيه الإنهاك من الحرب ذروته. يذكّرنا الفيلم بأن الثقافة ليست ترفًا في زمن الحرب، بل سلاحًا استراتيجيًا لا يقل خطورة عن السلاح العسكري.
وإذا كان الاحتلال قد راهن طويلًا على احتكار الصورة وتوجيه الرواية عبر شبكة واسعة من العلاقات العامة والتسويق، فإن صوت هند رجب يؤكد أن الكاميرا يمكن أن تكون أقوى من آلة دعائية كونية، وأن الصوت الإنساني البسيط قادر على زعزعة سردية هيمنت لعقود على الفضاء العام الغربي