التي تكشفها الأرقام الأخيرة للبنك المركزي التونسي. ففي أقل من سنتين، ارتفعت السيولة المتداولة من حوالي عشرين مليار دينار في منتصف 2023 إلى أكثر من اثنين وعشرين مليارًا نهاية 2024، ثم إلى حدود ستة وعشرين مليارًا في أوت 2025. زيادة تقارب ستة مليارات دينار تمت في ظل اقتصاد بالكاد ينمو ليوازي هذا التدفق النقدي.
وهنا قد يظن الناظر للوهلة الأولى أن ضخ المزيد من النقود يعني حركية اقتصادية، من منطلق أن مزيدًا من الأموال في جيوب المواطنين قد تُترجم إلى مزيد من الاستهلاك فبالتالي الاستثمار وهو ما يدفع إلى النمو. لكن الواقع التونسي يقول العكس، فالنمو الاقتصادي ظل ضعيفًا، لم يتجاوز 1.4 % سنة 2024، وسجل نسبة 1.6 % في الثلاثي الأول و3.2 % في الثلاثي الثاني من 2025، فيما بلغ التضخم مستويات خانقة تراوحت بين 8 و11 % خلال سنتي 2023 و2024 قبل أن يتراجع إلى حدود 5 % وفق معطيات خاصة بالسنة الراهنة.
وهو ما يكشف أننا أمام ضخ للنقود من قبل البنك المركزي الذي يظل المؤسسة الوحيدة المخولة قانونيًا بضبط حجم الكتلة النقدية، قد يكون استجاب لزيادة حجم الطلب على السيولة بضخ 6 مليارات دينار خلال 3 سنوات، والسؤال هنا: هل أخذ البنك بعين الاعتبار مستوى التضخم، والحركية الاقتصادية، قبل الإقدام على خياره الذي قد يؤدي إلى نتائج سلبية في ظل واقع إنتاجي هش، واستثمار ضعيف، واقتصاد موازٍ متنامٍ خارج رقابة الدولة؟
إذ إن زيادة السيولة تصبح محركًا للنمو فقط إذا توفرت قاعدة إنتاجية قادرة على امتصاصها. وفي تونس اليوم، هذه التدفقات النقدية الجديدة لا تذهب إلى استثمار أو مشاريع إنتاجية، بل تُستهلك في معاملات يومية، مما يعني إمكانية انزلاقها إلى الاقتصاد الموازي الذي يمتص جزءًا كبيرًا من الكتلة النقدية دون أن يضيف شيئًا للناتج المحلي. وبالتالي نكون أمام معادلة واضحة وهي: سيولة أكبر مع إنتاج ضعيف تعني تضخمًا مرتفعًا ونموًا ضعيفًا. وبهذا المعنى لا يمثل الارتفاع القياسي في الكتلة النقدية عنوانًا لازدهار، بل هو عنوان لأزمة عميقة في النمو والسياسة النقدية.
وهنا يصبح الخطر الذي يتهددنا هو إمكانية ارتفاع التضخم رغم التراجع الملحوظ المسجل منذ منتصف 2024 ليبلغ 5.3 % في جويلية الفارط، خطر لا يمكن للنوايا الطيبة أن تحول دونه، ولا يمكن هنا القول بأن السياسات النقدية نجحت بالتحكم في التضخم وستنجح لاحقًا. فما نحن إزاءه اليوم في علاقة بتراجع التضخم للأسف لا يمثل انتعاشًا حقيقيًا للاقتصاد التونسي بقدر ما يعكس تشديد السياسات النقدية وركود الاستهلاك بفعل تراجع القدرة الشرائية.
هذا الواقع يدعونا إلى قراءة النقد ليس مجرد أرقام، بل كمؤشر على إشكالية أعمق: اقتصاد رسمي ضعيف، اقتصاد موازٍ متضخم، سياسات غير متناسقة، ومواطن متوجس يبحث عن الأمان المالي. وكل هذا يطرح سؤالًا واحدًا: هل يمكن لأي سياسة نقدية أن تثمر نموًا حقيقيًا إذا لم تتغير الآليات الإنتاجية والاجتماعية والسياسية التي تحدد كيفية تداول هذه السيولة؟
في النهاية، الأموال ليست المشكلة. المشكلة أن هذه السيولة لا تجد مسارها الطبيعي نحو الإنتاج والاستثمار، بل تتحول إلى مؤشر على اختلال التوازن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وهنا يكمن التحدي الحقيقي: إدارة الكتلة النقدية بذكاء ليس هدفه مجرد ضبط الأسعار، بل إعادة الثقة للمواطن، وإعادة الحركية للاقتصاد، وتحويل كل دينار إلى محرك حقيقي للنمو والرفاه