كتابه الشهير «اليسراوية، المرض الطفولي للشيوعية»، أما اليوم فيمكن أن نقول أن الشعبوية هي المرض الطفولي وأمراض الشيخوخة الديمقراطية التمثيلية.
هنالك أصناف عدة من الشعبويات ولكن ما يكاد يجمعها جميعها هو نقدها لجوهر الديمقراطية التمثيلية ولمختلف مؤسساتها الدستورية والمجتمعية باعتبارها ديمقراطية النخب المتنفذة وديمقراطية لا تصغي للفئات المحرومة أو المهمشة ولكل صوت مناهض للمنظومة...
فبمعنى من المعان تكون الشعبوية نقدا جذريا ديمقراطيا تريد لا فقط توسيع وتنويع قاعدة المشاركة الشعبية (الديمقراطية التشاركية) بل قلب المنظومة رأسا على عقب فيصبح صوت من لا صوت لهم فهو الأعلى ويقصي من المشهد تباعا الأصوات القديمة للنخب المتنفذة.
عندما تكون القوى الشعبوية في المعارضة تكون لها جاذبية كبرى عند الشعوب التي تخطو خطواتها الأولى في تحوّل ديمقراطي تباطأت نتائجه الاقتصادية والاجتماعية أو في ديمقراطية قديمة انغلقت فيها النخب حول نفسها ومنعت تجدد الدماء والوجوه والفئات الاجتماعية، فهي كالمرض الذي يصيب الجسم قبل أن يشتد عوده أو حين يتهرم ويصبح عاجزا على التجدد... والشعبوية لا تقترح إصلاح الجسم بل الاستعاضة عنه بجسم جديد يكون بمثابة جنة المظلومين والمقهورين وجحيما على كل متنفذ قديم..
تناقضات ومغالطات الشعبويات كثيرة على المستوى النظري ويمكن البرهنة على قصر نظرها دون كبير عناء.. ولكن كل شعوب العالم لا تختار الأفضل والأكفأ في الانتخابات بل من تراهم يعبرون أكثر على تطلعاتها في لحظة سياسية ما، لحظة عادة ما تشهد أزمة حادة للديمقراطية الوليدة المتعثرة أو للديمقراطية العجوز العاجزة على التجدد، وهكذا انتصرت الشعبوية ديمقراطيا في عدة بلدان في العالم...
أمام امتحان الحكم تنقسم العشبوبة إلى مدارس ومقاربات شتى:
- شعبوية معادية كليا للنخب سرعان ما ترسي نظاما مستبدا باسم الشعب يقضي فيها على كل أنواع التعددية..
- شعبوية عدائية تقضي كامل وقتها في الحروب الداخلية والخارجية..
- شعبوية براغماتية تتحالف مع قوى الإنتاج لتسريع النمو الاقتصادي وللترفيع النسبي في مستوى المعيشة للفئات الكادحة مقابل الانصياع الجماعي وهي تتخذ من بعض المنجزات الاقتصادية والاجتماعية حجّة قاطعة على تفوقها على غريمتها: الديمقراطية التمثيلية.
لا توجد شعبوية واحدة وصلت إلى السلطة ولم تنزع نحو صنف من أصناف التسلطية وفق ما تسمح به ظروف البلد وقوة مؤسساته ويقظة الرأي العام الديمقراطي داخله، كما لا توجد شعبوية واحدة وصلت إلى السلطة ولم تقترف مجموعة متعاظمة من الأخطاء أدت بها في النهاية إلى فقدان كل شيء: السلطة والقاعدة الاجتماعية التي كانت تستندها..
الشعبوية البراغماتية هي أكثر الأصناف قدرة على البقاء - ولو إلى حين - لأنها تنجز في بداياتها ما تعجز عنه الديمقراطية التمثيلية عادة من اطلاق المشاريع الكبرى وإدارة عجلة الاقتصاد لأنها غير معنية بالمرة بالزمن الديمقراطي الذي تستغرقه النقاشات العامة والتفاوض مع مختلف المتدخلين والبحث عن حلول وفاقية لا تكون دائما ناجعة.. الشعبوية البراغماتية تبحث على النجاعة فقط وعلى أسباب تفوقها ولكن عندما يفقد النظام الشعبوي جذوته الأولى وتكثر الدوائر الزبونية من حوله يحصل حينها أمران متوازيان: اللجوء المتزايد لعنف السلطة والعجز المتزايد على الانجاز والفاعلية.
أما الشعبويات الأخرى التي لا تعتبر نفسها معنية مباشرة بالانجاز الاقتصادي وبتحسين ظروف عيش الناس فهي عادة ما تنحرف إلى ما تعتبره المهمة الأساسية وهي التصفية المادية والمعنوية والبشرية لكامل «المنظومة» كشرط امكان (condition de possibilité) تحقيق «النظام الجديد» الذي سيخرج من حطام المنظومة المتهالكة.. وهنا تبذل كل الطاقات لا للبناء والمراكمة بل لتحطيم القديم ومحاسبة هياكله ومجموعاته وأفراده وتأجيج «الشعب» ضدّ كل نخبه وتحميل «السابقين» كل مسؤوليات الفشل حتى بعد سنوات طويلة من الحكم..
والاشكال هنا أن الايديولوجيا الشعبوية لا تدرك أنها بصدد قطع كل أسباب الانجاز والنجاح الاقتصادي والاجتماعي وتدخل في حروب دونكيشوتية ضدّ الجميع ولكنها تنّزه دوما السلطة الشعبوية من كل اخفاق أو فشل..
الشعبوية في سعيها المحموم لقطع كل امكانيات النقد إنما تحرم نفسها من كل فرص المراجعة والتحسين والتجاوز وتشيخ وتتهرم بسرعة فائقة وتفشل في الانغراس الاجتماعي الذي كان متاحا لها لو كانت أكثر براغماتية..
الشعبوية ولا شك علامة أساسية في أزمات الديمقراطية ولكنها تبقى مرحلة انتقالية قصيرة تليها ضرورة ديمقراطية أكثر صلابة أو استبداد لا يخفي اسمه ومراميه