على ضمان الشروط الضرورية لحياته بمفرده وأن الاجتماع بالنسبة له شرط حيوي بدونه لا وجود أصلا للجنس البشري والمدينة كانت تمثل هذا الوجه الأبرز للاجتماع البشري، والمدينة قائمة على السياسة، أي بعباراتنا المعاصرة على إدارة الاختلاف الحتمي بين الأفراد والمجموعات..
ويمكن أن نقول أن السياسة بما هي إدارة للاختلاف سابقة عن ظهور الدولة بل وسابقة أيضا عن ظهور الانسان إذ نجد عناصر منها عند كبار القردة كـ«الشانبانزي» كما بيّن ذلك فراس دي فال في كتابه «La politique du chimpanzé» إذ تمارس هذه القردة جملة من التقنيات ومن «التدخلات» لحفظ الوئام وحلّ الخلاف الذي عادة ما ينشب داخل مجموعات كبار القردة..
حلّ الخلافات بالطرق السلمية داخل المجموعات البشرية هو أول مظاهر السياسة ولا نعتقد أن مجموعة بشرية واحدة مهما عدنا إلى غياهب التاريخ كان بإمكانها العيش دون تنظيم حلّ الخلافات وذلك أيا كانت أشكال وقواعد هذا الانتظام..
وحتى عندما وجدت دولة الحق الالهي والتي كانت تمارس استبدادا مطلقا على الرعية الا أنها لم تخل بدورها من أطر للسياسة على الأقل لتقديم النصيحة والمشورة للملك.
ومع تطور المجتمعات وتعقدها أضحت السياسة بهذا المعنى، مسألة جوهرية في كل مراحل الانتظام البشري وهي تهم كل مستويات العيش الجماعي بما في ذلك داخل الأسرة، فالسياسة تعد بعدا جوهريا في كل علاقة إنسانية.
والسياسة أيضا تتعلق بطبيعة اتخاذ القرارات العامة والتي تحدد مستقبل الأمم والشعوب وأحيانا مستقبل الإنسانية جمعاء..
وتم تنظيم عنصر التشاور والتداول الذي عرفته كل المجموعات البشرية مهما أوغلت في القدم في اطار مؤسسات - تسعى ما أمكن لها - للتعبير على هذا التنوع الهائل الذي يميز البشر في كل الثقافات والحضارات والعصور..
الدولة - في الأصل - هي جزء من السياسة.. جزء هام ولاشك ولكنها لا تستأثر بكامل فضاء السياسة والا لقضت على البعد التداولي والتعددي فيها.
ولكن الدولة ككيان مفارق «transcendant» للمجتمع مجبولة علىالتمدد باستمرار داخليا وخارجيا وهي لا تترك - بطبعها - مساحة للتداول خارجها إلا اذا كانت مجبرة على ذلك بفعل موازين قوى يفرضها عليها المجتمع، ثم أدركت الدولة الحديثة الديمقراطية كل ما يمكن لها أن تجنيه من خبرات وانخراط مجتمعي كلما تركت هامشا للسياسة وللتداول خارجها، ولكن دول عديدة مازالت تحن الى شكل من أشكال الحكم المطلق ظنا منها أن وجود فضاء سياسي خارج سيطرتها مجلبة للفوضى وللانقسام ولاهدار الوقت والطاقة فتراها تعمل جاهدة للتضييق على كل فضاء سياسي خارج عن سيطرتها بل لوأده نهائيا حتى يصبح الفعل السياسي حكرا مطلقا لصاحب السلطان.
ولكن هل يمكن للدولة أن تقتل نهائيا السياسة وهل يستفيد المجتمع من ذلك أم لا؟
هنا ينبغي الاقرار أن تحويل السياسة الى ما يشبه المهنة عبر الأجسام الوسيطة وإلى مهنة بواسطة الديمقراطية التمثيلية خلقت السياسة طبقة جديدة لم تعرفها المجتمعات القديمة وهي ما نسميه بالطبقة السياسية والتي لا تقتصر فقط على الأحزاب السياسية والهيئات الانتخابية بل تشمل أيضا كل ما يسمى بالاجسام الوسيطة من جمعيات ونقابات ووسائل إعلام.. وأحيانا يجتمع المال والجاه والسلطة ويعتقد بعض المنتخبين أو السياسيين أنه لا حسيب عليهم ولا رقيب ومن ثمة ينتشر الفساد بنسب مختلفة داخل هذه الطبقة وينحرف جزء منها عن مهامه النبيلة الأصلية.
يمكن أن نقول أنه لا وجود لتجربة سياسية تعددية واحدة في العالم قد خلت كليا من مظاهر الفساد هذه كما لا يوجد مجتمع واحد يخلو من شتى أصناف الجرائم ولكن عوض أن يعمل الجميع على وضع القواعد الكفيلة بالحدّ من هذا الفساد ومحاسبة كل من ولغ في المال العام عمدت حركات شعبوية عديدة في العالم شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، الى وصف السياسة التداولية والتمثيلية والتعددية بالفساد في ذاتها لا في بعض أفرادها وروجت الى فكرة أن الحلّ الجذري يكمن في قتل السياسة لا إصلاحها أي في النهاية في احتكار الدولة لا فقط للمبادرة السياسية بل وكذلك للخطاب السياسي.
واعتقدت بعض الشعوب أن التخلص من «ثرثرة» السياسيين وخصوماتهم التي لا تنتهي قد يسرّع بالاصلاح ويأتي بالازدهار..
ولكن نسيت هذه الشعوب أن قتل السياسة لا يهم الأجسام الوسيطة فقط بل كل مكونات وأفراد الشعب، فتجريم السياسة يعني تجريم الاعتراض والنقد والانتقاد..
فلا يفقد إنسان هذه الشعوب مواطنته فقط بل حريته أيضا في أبسط وأدنى مظاهرها..
مقاومة فساد بعض السياسيين مسألة واجبة شرط أن يكون ذلك بانصاف وفي محاكمات عادلة لو لزم الأمر ودون روح التشفي والانتقام، أما قتل السياسة بغاية قتل الفساد فلن يؤدي الا الى فساد أكبر دون قدرة على مقاومته