هل يقتضي مناهضة هيمنة الغرب ورفض فلسفة حقوق الإنسان؟ I-الفرد والحقّ والرجل الأبيض

تاريخيا مناهضة الهيمنة الغربية ليست وليدة اليوم

بل جدّت مباشرة بعد أن بسطت الامبراطوريات الاستعمارية الغربية هيمنتها على كل أرجاء المعمورة بداية من القرن الخامس عشر مع توسع مملكة البرتغال على السواحل الافريقية قصد الوصول إلى جنوب آسيا موطن التوابل الثمينة دون المرور بالبحر المتوسط وباليابسة حيث كان يهيمن على هذه المبادلات الأساسية التجار المسلمون وتجار البندقية بالأساس..

ثم تواصل التوسع الاستعماري الأوروبي مع البرتغال واسبانيا إلى ما كان يسمى العالم الجديد (الأمريكيتان) ولم يكد يمر القرن السادس عشر حتى التحقت فرنسا وانقلترا بركب الامبراطوريات الاستعمارية وتلتها هولندا بعد ذلك..

منذ بداية هذا التوسع الذي هيمن على كل العالم في القرن التاسع عشر والشعوب والقبائل المستعمرة في شتى أرجاء المعمورة تقاوم هذه الهيمنة بما أمكن لها رغم التفاوت الضخم التقني والعسكري..

يمكن أن نقول أن هذه المقاومة كانت في بدايتها عسكرية وسياسية قبل أن تسقط جلّ دول العالم في سلة الامبراطوريات الأوروبية..

لقد كان التركيز في مقاومة هيمنة الغرب زمن الفترة الاستعمارية على التحرير الوطني عبر استعادة السيادة السياسية وطرد الغزاة بكل الطرق الممكنة بما في ذلك بالكفاح المسلح وبعد أن كانت المقاومة الثقافية شبه غائبة في البداية أضحت تحتل مكانة متعاظمة في القرن العشرين ولكن دون أن يعني هذا رفضا للنموذج الغربي الحضاري بل قادت نخب كثيرة حروب التحرير ضدّ الاستعمار باسم القيم الغربية كالحرية والمساواة..

بعد استقلال جلّ الدول التي كانت رازحة تحت الاستعمار المباشر تنامى نقد الهيمنة الثقافية للغرب ولاسيما نقد ادعائه الكونية بفضل ما يعتبره منجزه الفلسفي الأساسي: حقوق الإنسان التي تتأسس على مفهوم الفرد المطلق والمجرّد من كل التحديدات الثقافية دينية كانت أم عرقية و اثنية وجندرية..

هنا تساءلت المدرسة النقدية في أمريكا اللاتينية (وبالاساس التيارات الديكولونيالية) هل أن المقولة المركزية للحداثة الغربية، الكوجيتو الديكارني «أنا أفكر إذن أنا موجود»، ما هي الا تغطيةعلى التنظير لهيمنة الرجل الأبيض (أي الأوروبي) على البقية، أي تلك الأعراف «الملونة» من الأصفر إلى الأحمر إلى الأسود ؟!

عندما قال ديكارت في النصف الأول من القرن السابع عشر «أنا أفكر» هل كا يقصد به عموم الجنس البشري؟ أم فقط الذات المفكرة للرجل الأوروبي؟

وعندما أسس فلاسفة العقد الاجتماعي في القرن الثامن عشر لفكرة «الفرد» (l’individu) هذا الذي كان يعيش في حالة الطبيعة (L’état de nature) حيث كل الأفراد أحرار ومتساوون وأن لكل فرد حقوق طبيعية (des droits naturels) تتأسس فقط على الوضع الانطولوجي للانسان كفرد حرّ ومساوِ لكل الأفراد.. هل كان يفكر هؤلاء الفلاسفة في الجنس البشري كما هو في الحقيقة؟ أي الفرد في العالم الجديد الذي تعرض لابادات جماعية واستعمار وافتكاك لارضه وطمس لهويته وثقافته ومعتقداته أم أن حدود تفكيرهم توقفت عند جغرافيا الرجل الأبيض؟

ألم يعد بالامكان أن نقول أن «الأنا» التي تفكر والتي تتمتع بحقوق طبيعية أنطولوجيا هي نفسها «الأنا» التي استباحت بقية الذواتات الأخرى ونفت عنها ملكة التفكير أي الوجود؟ ولم تر فيها - على الأفضل - سوى حالة شبه بهيمية تحتاج «التهذيب» ولو بالسياط حتى تلج، من الأدنى، مراتب الانسانية..

الواضح تاريخيا أن كل فلاسفة الحداثة الغربية - على الأقل منذ القرن السابع عشر - كانوا يعلمون علم اليقين ما يجري في مستعمرات الأمبراطوريات الأوروبية ورغم ذلك لا نجد استهجانا بل وجدنا فيلسوفا كبيرا كهيغل يقول في بداية القرن التاسع عشر أن العبودية قد تكون مرحلة ضرورية للارتقاء نحو الانسانية..

نحن أمام مفارقة فلسفية كبرى: التمييز ضدّ كل الشعوب غير الأوروبية واستعمارها واستباحة أراضيها وثرواتها واستعباد نسائها ورجالها أو اعتبارهم في مرتبة دونية لم يكن فقط فعل الامبراطوريات الاستعمارية الأوروبية بل هو أيضا - وان كان ذلك بصفة غير مباشرة - الايديولوجيا الخفية للحداثة الغربية.. ففي القرنين الخامس عشر والسادس عشر توسعت امبراطوريتا البورتغال واسبانيا بحجة تنصير الشعوب المتوحشة وبمباركة مكتوبة من الكنيسة الكاثوليكية.. أما بعد فأصبح التبرير هو المهمة الحضارية لأوروبا (la mission civilisatrice de L’Europe) لادخال الشعوب الهمجية في دائرة الحضارة.

وهذا ما دعى المفكرين الديكالونياليين في أمريكا اللاتينية إلى اعتبار أن الحداثة الأوروبية هي الابنة الشرعية للاستعمارية وأن الاستعمارية (colonialité) هي التي أسست للحداثة الأوروبية.

هل تغيّر، فلسفيا، الوضع اليوم داخل الأدمغة التي تصنع السياسات الغربية اليوم؟

ان ادعاء الكونية للقيم الأوروبية المركزية (الفرد - حقوق الانسان - الديمقراطية - الليبيرالية) لا ينبع من كونية فعلية تشارك فيها كل أمم ونخب العالم بل من اعتبار أن أوروبا الحداثة هي الأفق الأخلاقي والقيمي الوحيد للبشرية..

صحيح أن هذا الادعاء لم يتم نقده فقط من مفكري ما يسمى اليوم بالجنوب الكلي (le sud global) بل من داخل النخب الغربية ذاتها ولكن ينبغي الاعتراف بأن النزر القليل والقليل جدا من مفكري الغرب تمكن من التخلص بالكامل من عقدة المركزية الأوروبية.

مادامت فلسفة حقوق الانسان قد أضحت قولا وفعلا ايديولوجيا الدول الغربية الكبرى وعلى رأسها أمريكا ومادامت الهيمنة الغربية مازالت تمارس على كل شعوب العالم باسم هذه الايديولوجيا فهل يعني أن الخروج من هذه الهيمنة لا ولن يتم إلا بالخروج والتمرد على ايديولوجيتها وتعويض حقوق الانسان المتمركزة أوروبيا وغربيا بحقوق الشعوب المفتوحة على كل سكان المعمورة؟

نحن هنا أمام أحد أهم محاور الجدل القائم اليوم لدى النخب الفكرية في الجنوب الكلي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115