في الحكم ومسؤوليته

لا شك أن الوضعية العامة لكل أمة ولكل دولة لا يمكن

تفسيرها فقط بالمعطيات الآنية، اذ تتشكل كل العناصر الهيكلية فيها على امتداد عقود إن لم يستغرق ذلك بعض القرون، وبعضها مرتبط بما هو أبعد من ذلك كالبنية الاجتماعية والمخيال الجماعي وبعض العادات والتقاليد والمعتقدات..

والتفسير عملية شديدة التعقيد على عكس ما يعتقد أحيانا اذ تتداخل فيها زوايا النظر دون أن نملك في غالب الأحيان المسافة النقدية الضرورية لتشكيل الصورة الأكثر نزاهة لما يحدث..

نحن هنا - بشكل مخاتل إلى حدّ ما - في قلب مسألة الحكم ومسؤوليته، وعمّا يجب أن يُحاسب الحاكم وما هي حدود مسؤولياته الفعلية والأخلاقية والسياسية في كل ما يحدث في بلد ما..

هنالك صنفان من المسؤولية - وبالتالي المحاسبة - عند الحكام: مسؤولية التغيير المرئي ومسؤولية الإصلاح العميق.

مسؤولية التغيير المرئي شبيهة بمسؤولية المُدرّس في سنة، أي مسؤولية احداث الفارق من عدمه، في وضع البلاد خلال فترة الحكم.

أما مسؤولية الإصلاح العميق - من عدمه أيضا - فالحَكَمُ فيها هو التاريخ والأجيال اللاحقة أي ذلك الأثر الباقي في المجتمع ايجابيا كا أم سلبيا..

إن إصلاح منظومة الأسرة التي أقدم عليها الزعيم الراحل الحبيب بورڤقيبة غداة الاستقلال مازالت تؤثر إلى اليوم بصفة هامة لا فقط في بنية المجتمع ولكن أيضا في الذهنيات وفي المخيال الجماعي وفي عوالم الفنون والابداع..

علاقة الحاكم العربي في جلّ أقطارنا بالمسؤولية علاقة تكاد تكون منعدمة اذ ينسب لنفسه كل «الانجازات» مهما كانت بسيطة وعادية وعندما يظطر للاقرار بمشكلة ما فهي إما نتيجة «تركة» أسلافه أو تقصير وتهاون من صغار المسؤولين..

الحالات التي اعترف فيها حاكم عربي بخطإ أو بسوء تقدير منذ ستينات القرن الماضي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، فالحكم المطلق يقصي الخطأ من دائرة فعله فحكمه كله حكمة حتى وإن أخطأ في كل يوم مرّة..

في تونس وعلى امتداد حوالي سبعة عقود لدينا لحظتين فقط أقر فيها الحاكم بالخطإ: الأولى مع الزعيم بورقيبة إثر تجربة التعاضد في الستينات والثانية مع بن علي في خطابه الشهير يوم 13 جانفي 2011 عندما قال «غلطوني».. ولكن حتى في تلك اللحظتين الخطأ هو مسؤولية الآخر.. فالرئيس لا يغلط بل يُغالط في أقصى الحالات..

بعد الثورة لعب مفهوم «التركة» دورا كبيرا للتنصل من المسؤولية المباشرة، تركة «العهد البائد» أو تركة «العشرية السوداء» أو التركتين معا..

لم نسمع يوما واحد في تونس منذ الاستقلال حاكما قال لنا: لقد نجحنا في هذا المجال وأخفقنا في هذه النقاط نتيجة خطإ في التقدير. لم نسمع يوما واحدا اعرافا بالخطإ أثناء ممارسة السلطة وإن حصل فهو يحصل لدى النزر القليل بعد مغادرتها وعادة ما نرى نزعة تبريرية تلغي ما في الاعتراف من فضيلة.

يخفي مفهوم «التركة» في ثقافتنا السياسية السائدة تصورا خاصا للحكم يقوم على هدم ما سبق وعدم الاقرار بأية مزية له والرغبة الجامحة للانطلاق من الصفر بعد تحطيم كل ما سبق، وهذا ما أفقدنا القدرة على المراكمة وعلى التصالح مع ماضينا وعلى التقدم معا دون ضغينة أو بغضاء..

ثقافة المسؤولية - ومنها ضرورة الاعتراف بالخطإ وقبول المساءلة الجدية - ليست فقط قيمة أخلاقية بل هي منظومة متكاملة تبدأ بحسن الاستعداد لإدارة الشأن العام أي الالمام بالمشاكل الأساسية للبلاد والتفكير في حلول لها قبل التفكير في حكمها ثم في الحكم وفق برنامج يرسم أهدافا نعرف ما تستوجب من نفقات عمومية ومن مدة زمنية والأهم من ذلك أن يدرك من يسعى للحكم أو يمني النفس به أنه في أحسن الحالات سيضع لبنة من جملة لبنات وأنه مطالب بالشروع في الإصلاحات التي تضع صوب نظرها العقود والأجيال القادمة وعند حصول خطإ واضح في التقدير استخلاص العبرة من ذلك إما أمام الناخبين أو بين المرء ونفسه..

كلهم يقولون الحكم مسؤولية لكن جلهم يريدها مسؤولية دون مساءلة جدية ودون الاقرار بالأخطاء رغم وضوحها

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115