الدولة والثقافة في تونس: أزمة المعنى وغياب الاستراتيجية

كشفت الأحداث الأخيرة المرتبطة بمهرجان قرطاج الدولي

عن مفارقة عميقة في طريقة التعامل مع الشأن الثقافي في تونس. فبعد ساعات فقط من الإعلان عن برمجة المهرجان، أُعلن عن إلغاء عرض الفنانة «هيلين سيغارا» إثر جدل واسع على منصات التواصل الاجتماعي، استنكر استضافتها نظرًا لمواقفها المعلنة الداعمة للاحتلال.

ما كُشف هنا لم يكن مجرد خلل في التنظيم، بل تجلٍّ لعقل ارتجالي في إدارة الثقافة، عقل يتشكّل تحت ضغط اللحظة، وينصاع لردود الأفعال دون أن يستند إلى رؤية استراتيجية أو بنية مؤسساتية فاعلة، توجّه الفعل الثقافي ضمن أفق واضح.

هذه الواقعة أضاءت جانبًا معتمًا من الأزمة العميقة التي يعيشها المشهد الثقافي التونسي، حيث باتت الثقافة تُدار كقطاع إداري هشّ بميزانية محدودة، نتيجة لاستمرار نهج سياسي يرى الثقافة أداة تطويع وتوجيه، لا مجالًا للحرية والتعدد.

منذ الاستقلال، اختُزل الدور الثقافي للدولة في وظيفة تربوية تقوم على تشكيل ذوق عام وسلوك منضبط، وتسعى إلى هندسة الوعي الجماعي بما يخدم مشروع «الحداثة» كما صاغته النخب الحاكمة آنذاك. فغدت الثقافة شأنًا حصريًا للدولة، تمأسست عبر وزارة الثقافة، التي رسّخت تصورًا يرى في الثقافة جهازًا من أجهزة الدولة، لا تعبيرًا عن دينامية مجتمعية حرة.

لم تكن السياسات الثقافية في تونس، يومًا، انعكاسًا لتعدد المجتمع وتنوع تعابيره، بل كانت أداة لإنتاج سردية موحّدة. فقد بقيت لعقود رهينة مركزية السلطة ووظيفيتها، موجهة لجمهور افتراضي تصوغ ملامحه الدولة، لا جمهور فعلي ينبض بتناقضات الواقع.

في عهد بورقيبة، وُظّفت الثقافة امتدادًا للمؤسسة التربوية والإدارية ضمن مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة، وفي عهد بن علي احتفظت بدورها التربوي، لكن أُضيفت إليها وظيفة دعائية، جعلت منها واجهة تزيينية لنظام سلطوي.

أما بعد الثورة، فقد انفجرت التعبيرات الثقافية وتحررت الكلمات، وتحركت الهوامش، وخرجت المبادرات المستقلة إلى الضوء. لكن هذا المخاض لم يرافقه تأسيس حقيقي لسياسة ثقافية جديدة. بقيت الدولة حبيسة نفس البنية الذهنية والمؤسساتية؛ لم تُراجع القوانين، ولم يُعاد توزيع الدعم العمومي، ولا مُكّنت الجهات أو الفاعلون المستقلون، كما لم يُعترف فعليًا بثقافات الشارع والهامش والذاكرة الجهوية المنسيّة.

وفي مقابل هذا العجز، ارتفع خطاب رسمي يتحدث عن «ثورة ثقافية» و»تطهير الذوق العام» و»بناء الإنسان الجديد»، لكنه لم يكن سوى إعادة إنتاج لتصور أبوي ومركزي للثقافة، يستند إلى منطق التهذيب والتأديب وترشيد الذوق العام، دون أن يوضح ماهية القيم المرجعية التي يدافع عنها.

هي معضلة تتكرّر كل صيف مع موسم المهرجانات، وتعيدنا إلى السؤال الجوهري، ما موقع الثقافة في تصور الدولة؟ في ظل مشهد ثقافي ما زال يُدار بعقل بيروقراطي لا يتجرأ على مساءلة المنظومة القديمة، أو التقدّم خطوة نحو أجوبة عميقة لأسئلة مؤجلة منذ عقود، ابرزها ماهي علاقة الثقافة بالعدالة الاجتماعية؟ كيف نواجه التهميش الرمزي؟ ما هي آليات إنتاج المعنى وتوزيعه وضمان تمثيله؟

تلك ليست أسئلة موجّهة إلى الدولة وحدها، بل إلى المجتمع والفاعلين فيه، اذ هي تعكس جوهر أزمة الثقافة في تونس، التي عن أزمة اعمق وهي كيف تتصوّر الدولة ذاتها، وعلاقتها بالحرية، والخيال، وبإنتاج الرمزية.

هنا لا بد ان ندرك انه حينما نعجز جميعا عن الاجابة عن هذه الاسئلة فاننا نفسح المجال لرداءة ممنهجة او للإقصاء الذي يتغذى من الفراغ الرمزي ويعيد إنتاج العجز

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115