قرب التوصّل إلى اتفاق لهدنة وتبادل الأسرى بين المقاومة والاحتلال، وان ما تبقى عالقا هي نقطة وحيدة محل خلاف، وهي تتعلّق بإصرار الاحتلال على الاحتفاظ بالسيطرة على ما يُعرف بمحور «موراغ» (ممر صوفا)، واعتباره «خطاً أحمر» لا مجال للتراجع عنه.
قد تبدو هذه النقطة للبعض تفصيلية وهامشية أمام النتيجة المنتظرة، المتمثلة في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، حتى وإن كان مؤقتاً لمدة 60 يوماً، غير أنّها في الواقع أبعد من ذلك بكثير، بل تكشف بدقة جوهر المفاوضات الراهنة والمسار السياسي المقبل. فهي تكشف عن نية الاحتلال في إفراغ أي انسحاب عسكري لاحق من القطاع من معناه الحقيقي.
فهذا المحور، الذي تطلق عليه وسائل الإعلام العبرية اسم «فيلادلفيا 2»، يمتد جنوب القطاع بين خان يونس ورفح، وقد تحوّل في منظور الاحتلال إلى منطقة استراتيجية، تتجاوز وظيفتها الميدانية إلى دور جيوسياسي يجعل من السيطرة عليه أولوية قصوى وهو ما برز في المفاوضات الجارية، التي تُدار بوساطة قطرية ومصرية وأمريكية.
إذ يُسوّق الاحتلال سيطرته عليه باعتبارها «ضمانات أمنية» تمنع إعادة تموضع المقاومة في الجنوب، بينما في الحقيقة هي ان السيطرة على هذا المحور تتيح له فرض تموضع عسكري دائم يفصل مدن غزة عن بعضها، وينشئ منطقة عازلة على الحدود مع مصر، تُعيد إنتاج التجزئة الجغرافية والإدارية المعتمد في الضفة الغربية عبر الحواجز والمعابر والنقاط الأمنية.
اذ يسعى الاحتلال الى استعادة السيطرة على قطاع غزة كما كان عليه الوضع قبل انسحاب 2005، من خلال إحياء الخطة التي وضعها عام 1972 لتقسيم القطاع جغرافياً بين رفح وخان يونس. مع تحديث هذه الخطة اليوم لتنسجم مع المتغيرات الجديدة، بحيث يُعاد استخدام محور «موراغ « كأداة لتنفيذ مشروع فصل المناطق وقطع التواصل بينها، والتحكم في حركة الأفراد والبضائع، بما في ذلك المواد الغذائية وتلك المرتبطة بإعادة الإعمار. ورهانات الإحتلال لا تقف عند حدّ التأمين العسكري، بل تمتد إلى تفكيك القدرات البنيوية للمقاومة، وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للقطاع بطريقة تمنع اي امكانية لإدارة موحّدة له مستقبلا، وتتيح للاحتلال تحكماً غير مباشر طويل الأمد.
وخطورة هذا المحور تكمن في أنه يعيد رسم الخريطة السياسية لقطاع غزة. فالاحتلال يريد من خلاله إنشاء منطقة خاضعة لسيطرته، تمكّنه من تحقيق عدة أهداف دفعة واحدة، فصل المنطقة الزراعية الخصبة في الجنوب عن بقية القطاع، وفرض حصار كامل يعزل غزة عن الامتداد الجغرافي المصري، والتحكّم المطلق بما يدخل القطاع أو يخرج منه، وبالتالي تقييد الحياة الاقتصادية والإنسانية والسياسية.
وهو ما تدركه المقاومة بدق وتعى ابعاده الاستراتيجية، ولهذا تتمسك هي الاخرى ـ في خطابها السياسي وفي كواليس التفاوض ـ بمطلب الانسحاب الكامل وغير المشروط من القطاع، وخاصة من محور موراغ، كشرط جوهري للوصول إلى أي اتفاق وتراهن في ذلك على ما حققه ميدانيا من انجازات ترحل الضغط الى الاحتلال.
فالاحتلال، الواقع تحت ضغط داخلي متصاعد ونقد دولي متزايد، يدرك أن هذه النقطة قد تُفجّر المفاوضات برمّتها، كما يدرك ان هذه المفاوضات تمثل له المخرج الوحيد من حرب استنزاف باتت تستنزف قدراته السياسية والعسكرية، وتفقده الدعم الدولي. ولهذا يُروّج حلفاؤه لحلول «تقنية» على غرار إشراف طرف ثالث على المحور أو ترتيب أمني مؤقت، وكأن الأمر لا يتجاوز مسألة إدارة حدود، متجاهلين أن أي منطقة عازلة تقسم القطاع، بصرف النظر عمّن يسيطر عليها، ستكون الضربة القاضية لأية إمكانية لإقامة دولة فلسطينية متّصلة جغرافياً. فهذه ليست مجرد منطقة أمنية، بل وسيلة لإعادة تشكيل المجال السياسي والديموغرافي الفلسطيني بما يتماشى مع مشاريع التهجير، وعلى رأسها ما يُسمّى «المدينة الإنسانية» في رفح، المخطط لها أن تستوعب 600 ألف فلسطيني في خيام تحت إشراف الاحتلال أو من ينوب عنه.
من هنا، يصبح التمسك بمحور موراغ من قبل الاحتلال محاولة لفرض الأمر الواقع على الأرض، وفصل «المدينة الإنسانية» عن باقي قطاع غزة، بما يجعل عودة الفلسطينيين إلى خان يونس ومدينة غزة مؤجلة أو مشروطة، ويعيد إنتاج نظام «المناطق العازلة»، وما يحول دون نجاحه هو ان المقاومة، التي تدير المفاوضات حتى الآن بقدر كبير من الحنكة، تدرك أن أي تمركز عسكري للاحتلال في نقاط استراتيجية لا يُفقدها فقط ما أنجزته ميدانياً خلال 21 شهراً من حرب الإبادة، بل يُجهض مستقبل الدولة الفلسطينية ذاتها.
فما يُناقش اليوم حول محور موراغ ليس مجرد تفاصيل تقنية أو خطوط على الأرض، بل هو الحدّ الفاصل بين منطق الاحتلال ومنطق الحق، بين تسوية مفروضة بقوة السلاح، وتسوية عادلة تحترم وحدة الأرض والسيادة. وأي اتفاق لا يُنهي سيطرة الاحتلال على هذا المحور الحيوي، لن يُنهي الحرب