التوجيه الجامعي وإصلاح التعليم العالي: في حتمية الاندماج التكنولوجي

انطلقت أمس دورة المراقبة لامتحان البكالوريا 2025 المنتظر الإعلان

عن نتائجها في 13 من شهر جويلية الجاري، ومعه تتضح نسبة النجاح العامة في البكالوريا ويفتح الباب أمام محطة جديدة هي التوجيه الجامعي الذي سيحظى باهتمام وتركيز جزء واسع من التونسيين.

فككل سنة، وبعد امتحان البكالوريا بدورتيه الرئيسية والمراقبة، تتوجه أنظار آلاف العائلات التونسية إلى مرحلة التوجيه الجامعي والمسارات الأكاديمية والمهنية المتاحة لأبنائهم الناجحين، وهي لحظة تعكس أهمية التعليم العالي في المخيال الجمعي للتونسيين، لا فقط كمرحلة دراسية، بل كمسار لمستقبل الشباب والارتقاء الاجتماعي، رغم ما لحق من ضرر وتفكك بمنظومة التعليم في تونس.

مرحلة التوجيه ليست فقط لحظة فردية أو عائلية، بل هي لحظة وطنية بامتياز، وهذا ما يفترض أن تكون عليه، فهي من اللحظات المؤسسة للمستقبل الجمعي للتونسيين وليس فقط الفردي، وإن كان ظاهرها كذلك، فهذه المرحلة التي تتكرر سنويًّا هي في جوهرها لحظة إعداد الكادر البشري ورسم الخطوط الكبرى لمستقبل المجتمعات والدول التي يُفترض أن خريجي الجامعات هم من ركائز العنصر البشري في بناء مشروعها الوطني ومستقبلها، خاصة اليوم في ظل عالم متغير تتسارع فيه التحولات العلمية والتكنولوجية بشكل غير مسبوق.

لكن للأسف، واقع الجامعة التونسية يكشف عن فجوة كبيرة بين تطلعات الأفراد والمجتمع وقدرة منظومتنا التعليمية على الاستجابة للطموح الفردي والجماعي وعلى مواكبة التحولات الكبرى. ولعل نسبة العاطلين عن العمل من حملة الشهادات العليا أحد أهم مؤشرات هذه الفجوة، بالإضافة إلى مؤشر الارتباط بالتكنولوجيا وارتباط التعليم بالسوق.

فللأسف، منظومتنا التعليمية تعاني منذ سنوات من ضعف هذا الارتباط الذي أفرز في النهاية تباينًا بين حاجيات السوق والاقتصاد التونسي وبين واقع الجامعة واختصاصات خريجيها. التوجيه الجامعي في تونس غالبًا ما يقود إلى تخصصات لا تلبي حاجات سوق العمل ولا تواكب التطورات العلمية ولا تساعد على تطوير النسيج الاقتصادي. ولعل مؤشر نسبة الطلبة الملتحقين بتخصصات علمية وتكنولوجية قادر على أن يُبرز الخلل في منظومتنا، إذ إن المعدل السنوي للمسجلين في هذه الاختصاصات يبلغ 8 % فقط من إجمالي المسجلين في الجامعة التونسية، وهو ما يعكس ضعف استجابة الجامعة للثورات التكنولوجية التي فرضت نفسها على العالم ودفعت جل دوله لمراجعة منظوماتها التعليمية لتتلاءم مع المتغيرات.

وهذا التعثر في الاستجابة للمتغيرات هو في الحقيقة نتاج لتقاطع عدة عناصر، ولعل ما يجمع بينها هو ضعف السياسات العمومية في هذا المجال، والتي يعكسها بشكل جلي عدم اتخاذ أية خطوة في مسار معالجة تآكل البنية التحتية للتعليم العالي وعدم ملاءمتها اليوم لمقتضيات التعليم العصري، خاصة إن تعلق الأمر بالارتباط التكنولوجي، فمن بين الجامعات الثلاث عشرة التي تضم أكثر من 200 مؤسسة تعليم عالٍ، فإن عدد المؤسسات التي توفّر بيئة تعليمية رقمية متطورة محدود جدًّا.

كما أنه ووفق تقارير وزارة التعليم العالي، فإن أقل من 40 % من الجامعات التونسية ذات الاختصاص مزودة بمخابر تقنية متطورة تتيح للطلبة ممارسة التطبيقات العملية في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، كما تعاني المؤسسات في الجهات الداخلية من نقص حاد في التجهيزات الرقمية والاتصال بالإنترنت عالي السرعة.

ويُضاف إلى ذلك محدودية ميزانية البحث العلمي في المجالات التكنولوجية، حيث لا يتجاوز إنفاق تونس على البحث العلمي في مختلف الاختصاصات الـ 0.53 % من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة ضعيفة كليًّا مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ نحو 2.3 % ومتوسط إفريقي يبلغ 0.9 %، وانعكاس ذلك المباشر هو الحد من قدرة الجامعات على تطوير مشاريع بحثية تطبيقية ترتبط بالابتكار والاقتصاد.

وهذه عينة من العقبات التي تحول بين منظومتنا التعليمية وقدرتها على لعب دور قاطرة المستقبل للبلاد، عقبات يمكن تجاوزها ولكن ذلك يتطلب إصلاحًا عميقًا ينطلق بمراجعة المناهج الجامعية وتعزيز البنية التحتية الرقمية وزيادة التمويلات المخصصة للبحث العلمي، مع التركيز على المشاريع التكنولوجية ذات التطبيق العملي. ولا يقل أهمية عن ذلك إصلاح حوكمة الجامعات لمنحها استقلالية تمكّنها من اتخاذ قرارات سريعة ومرنة تتماشى مع متطلبات العصر.

فهذه من شروط استعادة الجامعة التونسية لدورها المحوري في التنمية الوطنية، وهي تتوقف اليوم على مدى قدرتها على ردم الفجوة التكنولوجية، التي لا يمكن تقليصها إلا بإدراك أن التوجيه الجامعي ليس مجرد اختيار دراسي فردي، بل هو استثمار في مستقبل البلاد

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115