منذ الاستقلال ببروز قطبين سياسين شكلا مركز الثقل السياسي استقطبت جاذبيتهما جزءا واسعا من الاجسام السياسية والحزبية لتجعلها تدور في فلكها، وذلك ما يتجسد اليوم في بروز قطبين تحدد ماهيتمها موقعهما من السلطة وخياراتها.
واقع عبرت عنه عدة تصريحات من طرفي الصراع السياسي في تونس، المعارضة والمساندة، كما عبرت عن مدى التداخل والتعقيدات الداخلية، التي جعلت من الفرز والاستقطاب على مستويين، استقطاب داخل الساحة السياسية واستقطاب ثان صلب كل شق في المعادلة السياسية. ويشمل الامر معسكر المساندة والدعم الذي أعلن عن ان البلاد تعيش على وقع لحظة فرز مركبة، عنوانها الخارجي السيادة الوطنية وعنوانها الداخلي المنجز الاجتماعي والاقتصادي.
فرز خارجي تسعى المساندة الى جعل المشهد السياسي العام قائما على قطبين، قطبا تعاديه وتعتبر انه يمثل المصالح واللوبيات والخارج. أما القطب الثاني فيمثله انصار مسار 25 جويلية المنتصر لمسألة السيادة الوطنية واستعادة القرار السياسي والتحرر الاجتماعي. صلب هذا القطب السياسي السيادي الاجتماعي كما يقع التسويق له، تتمايز مكوناته في عملية فرز داخلي.
إن معسكر مسار 25 جويلية الذي تشكّل من وجهة نظر انصاره على مشترك مركزي يعتبر أن لحظة 25 جويلية لحظة مفصلية في المشهد وفي الوعي السياسي التونسي، باعتباره ــ وفق مقولاتهم ــ حدث كسر الجمود السياسي وأنهى التعطيل المؤسساتي وتحالف المصالح الذي اضر بالشعب التونسي كذلك استعادة القرار السياسي السيادي.
مقولات مشتركة اجتمع كل مساندي 25 جويلية تحت سقفها، ومع مرور الوقت لم تعد كافية للفرز في مشهد تداخلت عناصره ومكوناته، فاصبحنا نرى مع مرور الوقت ضعف المنجز الاجتماعي والاقتصادي للسطة وهيمنة النزعة الأحادية في الحكم. هوة تشكلت بين المكونات التي ولئن تمسكت بالمقولات المشتركة الا انها باتت تتمايز داخليا وفق معيار وحيد وهو تقييم سياسات السلطة وكيفية تعاطي كل طرف مع الاختلاف بين الخطاب والممارسة.
فرز داخلي فتح المجال أمام حالة من التململ صلب مكونات هذا المعسكر المساند الذي يعتبر بعضه ان البلاد امام لحظة فرز تاريخية بين قوتين و يؤصلون لهذا بمقولات يراد لها ان تستعيد الزخم الذي تشكل مباشرة اثر 25 جويلية، وذلك بهدف الاستجابة للتطورات التي شهدتها الساحة وانعكست سلبا على مقبولية المسار ذاته لدى جزء من التونسيين، منهم النخب الفكرية والسياسية التي أيّدت المسار في بدايته لكنها انشقت عنه بعد اشهر بشكل صامت.
بل ان بعض هذه النخب قدّمت نفسها جزءا من «التيار التصحيحي»، ولم تتوان عن انتقاد نجاعة الخيارات المتّبعة، خاصة أمام تآكل الضمانات الدستورية وانغلاق الحقل السياسي وتزايد مؤشرات التضييق على الحريات. وقد برز ذلك في كتاباتها ومداخلاتها الإعلامية، انتقلت بها وبخطابها من الانخراط في المسار إلى التحفظ والنقد المشروط لدى بعضها، يعكس ذلك مراجعات جارية، التي لم تبلغ حدّ القطيعة الكاملة، الا أنها تفتح الباب أمام إمكانية إعادة التموضع.
على مستوى القواعد الشعبية، تبين المؤشرات الميدانية وجود مؤشرات فتور حماسة لدى طيف من التونسيين حول المسار برمته، بل وعدم الاقتناع بالمشروع السياسي القائم. هذا ما بينته نسبة المشاركة في الانتخابات او عودة الحراك للشارع والابتعاد عن الحاضنة الشعبية للمسار التي باركت لحظة 25 جويلية بوصفها كانت تعد بالتغيير. وقد وجدت نفسها أمام واقع اقتصادي متأزم ومشهد سياسي مغلق وأداء اتصالي لا يرتقي إلى مستوى انتظاراتها، مما الى تعميق الشعور بالخذلان، وفق ما يقوله ابرز داعمي المسار ومنهم عبيد البريكي ومنجي الرحوي، سبب ذلك من وجهة نظرها تراجع قدرة الدولة على الاستجابة الى الحاجيات اليومية، وغياب أفق إصلاحي اقتصادي واجتماعي ملموس.
ثالثًا، في محيط الفاعلين المدنيين المقرّبين من السلطة، برز نقاش ضمني حول حدود «الدعم النقدي» للسلطة، ومدى قابلية المشروع الحالي للحياة دون تعددية حقيقية ودون آليات محاسبة فعالة. في هذا الإطار، بدأت بعض المنظمات والشخصيات، التي لعبت دورًا داعمًا لمسار 25 جويلية، تلوّح بضرورة «تصحيح المسار»، عبر الدعوة إلى انتخابات حقيقية وتوسيع دائرة الحوار الوطني والتأسيس لعقد سياسي جديد أكثر شمولًا.
هذا الفرز داخل معسكر المساندة لا يعني بالضرورة تاكل التحالف المؤيد للسلطة، جراء تآكل قاعدته الأخلاقية والسياسية الناجمة عن نهج السلطة في التعاطي مع خصومها السياسين والحقوقين والصحفيين والتضيق على الحريات السياسية والفردية. ذلك ما يطرح على القوي الديمقراطية والاجتماعي في الحزام الداعم للمسار تحديا كبيرا ويفرض عليها الاجابة عن اسئلة مصيرية تتعلق بمدى قدرتها على انتاج مشهد سياسي يقوم على مقولات مركزية تضمن الحد الادنى من الالتقاء مع مسار 25 جويلية ومع مواقف ومبادئ هذه الاحزاب في علاقة بالحريات ومع المنجز الاقتصادي والاجتماعي، بما يجعلها جزءا من المشهد لا خارجه وان تكون قادرة على التموقع في ظل سلطة تعادي كل الاجسام الوسيطة وترفض الحوار والتشاور معها.
هذا السؤال أصبح أكثر إلحاحًا والاجابة عنه دفعت بعض اصوات الحزام الداعم للسلطة إلى المطالبة بإعادة التوازن الى البنية القانونية والمؤسساتية والتنظيمية التي أُعيد تشكيلها مع بادية المسار. اي انها تطرح ضمنيا اسئلة تتعلق بالشرعية والمشروعية وتلمح الى ان السلطة عاجزة بمفردها على الاستجابة الى رهانات المرحلة وانتظارات التونسيين.
ذلك ما يعنى اننا أمام مشهد سياسي باتت فيه لحظة الفرز فيه تشمل الجميع، معارضةً أو موالاة، مما يعكس عمق التحول الجاري في بنية الوعي السياسي وفي أشكال الاصطفاف والتمايز. إن «الفرز التاريخي» ليس مجرّد شعار يُطلق من طرف دون آخر، بل أصبح واقعًا يُلزم الجميع بإعادة التفكير في طبيعة المشروع الذي يدافعون عنه، وفي الكلفة السياسية والرمزية لاستمرارهم على نفس النهج دون مراجعته.
بذلك تصبح الاسلئة التي تطرح على الفاعلين السياسين في البلاد، سواء منهم ممثلو المعارضة المطالبون اليوم بالقدرة على تجسير خلافاتهم وتوحيد صفوفهم وتنظيمها لاستعادة التوازن وتقديم البدائل السياسية. او المساندون لسلطة 25 جويلية والذين يواجهون أسئلة تتعلق بالمراجعة والشرعية والمشروعية السياسية. بين هذين القطبين، يقف الشارع، في انتظار من يملك القدرة على إقناعه و تقديم مخرج فعلي من الأزمة.