لا من حيث الاصطفافات فقط بل من حيث طبيعة الخطاب السياسي ذاته. إذ باتت معالم القطبين المتقابلين أكثر تمايزًا، الأول يلتفّ حول خيارات السلطة، متبنّيًا سرديتها بشأن «تصحيح مسارالثورة و«مجابهة منظومة الفساد»، مع حضور انتقادات جزئية لبعض الخيارات السياسية، والثاني يمثّله طيف واسع من المعارضة السياسية والمدنية الرافضة لهذا المنحى باعتباره تقويضًا لمسار الانتقال الديمقراطي.
رغم هذا التباعد الجليّ بين الطرفين، الا أنهما يتقاطعان في توصيف المرحلة كلحظة «فرز تاريخي»، حتى وإنْ اختلفا في معايير هذا الفرز ودلالاته. في نظر المعارضة، تمثّل هذه اللحظة مفترقًا يفرض على الاحزاب إعادة التموقع وفق أولوية استعادة الديمقراطية وترسيخ الحريات، بينما ترى الأطراف المؤيدة لمسار 25 جويلية أن الفرز يدور أساسًا حول استرجاع السيادة الوطنية وتحرير القرار السياسي. هذا «الفرز» لا يُختزل في الاستقطاب الظاهر، بل يعكس تحولات أعمق داخل كل طرف منها.
ابرز التحولات تلك التي تظهر في صفوف المعارضة التي دخلت طورًا من النقاش الداخلي المتقدم حول أفقها السياسي ومهامها المرحلية. ففي ظل التشتت والتآكل التنظيمي، تزايدت الدعوات إلى مراجعة ذاتية صريحة، تعيد تعريف الوظائف السياسية للمعارضة، وتتجاوز الاصطفافات القديمة والمواقف الدفاعية التقليدية.
وسط هذا المناخ، باتت تطرح من داخل صفوفها تساؤلات محورية عن مدى قدرتها -بمحتلف أطيافها- على تجسير الهوّة بين مكوّناتها؟ واذا توفرت الارادة لذلك، فهل تكفي لوحدها أم لابد من توفر الشروط الموضوعية؟ وعلى اي اسس يمكن ان تلتقي المعارضات؟ هل على اسس مهام مشتركة او على اساس مشروع وطني شامل وكامل؟ وما هي المهام المشتركة التي يمكن أن تشكّل أساسًا لهذا اللقاء المؤجل؟
جملة من الاسئلة، ما يمكن الاجابة عنه ذلك المتعلق بالشروط الموضوعية التي بادرت بعض الاصوات صلب المعارضة بتقديمها انطلاقا من ان النجاح في تجسير الهوة يشترط: أولا إعادة بناء الثقة التي تآكلت بين مكوّنات المعارضة، التي أضعفتها سنوات من الانقسامات والخيبات والتنافس، والتخفيف قليلا من هيمنة الاديولوجيا على وضع التصورات والتمثلات السياسية للقطع مع اعتقاد كل طرف بانه يمتلك الحقيقة وانه الممثل الحصري لها، باعتبار ان تلك الخطوة اساسية للانتقال الى منطق الشراكة في الفعل السياسي، الذي لا يعنى التماهي واضمحلال الاختلافات بل يعنى العمل معا من اجل تحقيق مهمة سياسية محددة.
في ذات السياق الخاص بالمراجعات ، تبرز الحاجة إلى ان تراجع مكونات المعارضة علاقتها بالشارع، لا من خلال تحسين أدوات الاتصال فقط، بل بإعادة صياغة خطابها بما يجعله أقرب إلى تطلعات المواطن وأقدر على التعبير عن مطالبه الآنية. ان فقدان الامتداد الشعبي لطيف واسع من المعارضة أدى الى عزلها وأفقدها القدرة على التأثير، هنا قد يكون جهدها مضاعفًا، فهي في حاجة الى اعادة بناء شرعيتها الشعبية انطلاقا من رصيد سلبي قد يعقد المسائل مما يجعل المعارضة امام حتمية الانفتاح الحقيقي على النخب الفكرية والثقافية، لا بوصفها تفاصيل خطابية، بل كشريك فعلي في صياغة مشروع بديل، خاصة وان بعض النخب الأكاديمية والحقوقية باتت تتفاعل ايجابيا مع خطاب المعارضة بل تساهم في النقاش العام خاصة في علاقة بمسألة الانغلاق السياسي والمطالبة بإعادة تأسيس المشروع الديمقراطي على أسس أعمق من مجرد استعادة وضع سابق.
من هنا، يُطرح داخل النقاش المعارض تصورٌ يربط بين إعادة التكتل وإنتاج سردية جديدة، سردية لا تكتفي بالتشخيص، بل تقدم بديلًا سياسيًا متماسكًا بأفق زمني واضح يتجاوز الخطابات الشعبوية أو التبريرية ويضع ملامح مشروع للإنقاذ الوطني. ولا يمكن أن تكتسب هذه السردية شرعيتها دون مساهمة النخب في بلورتها وترويجها.
لعلّ ما يزيد من وعي المعارضة بضرورة هذا التحوّل، إدراكها بأن النجاح لا يُقاس بمجرد القدرة على الالتقاء، بل بمدى قدرتها على تطوير أدوات العمل الجماعي وتعزيز التنسيق المدني والسياسي، في مساحة تتخطى الأطر الحزبية الضيقة نحو فضاء وحدوي أوسع يضم فاعلين متنوعين يتقاسمون نفس الهواجس والمطالب.
هذه الرؤية ليست ترفًا تنظيميًا، بل هي ضرورية لمجابهة أزمة بنيوية باتت تهدد الحياة السياسية برمّتها وتتطلب شجاعة سياسية ومرونة فكرية وقدرة على تجاوز الحسابات الضيقة. وهي صفات ما تزال، إلى حد الآن، موزعة بشكل غير متكافئ في صفوف المعارضة.
هذا ما يجعل بعض رموز المعارضة او النخب الفكرية والاكادمية تشير بوضوح الى ان جزءا من المعارضة الحزبية والحقوقية لم تدرك بعد ان لحظة الفرز التي فرضت على الساحة السياسية التونسية ليست مجرد لحظة انقسام النخبة الحزبية والسياسية الى معسكرين، بل لحظة اختبار شاملة للجميع .
مشهد الفرز لا يقتصر على صفوف المعارضة وحدها، بل يشمل معسكر المساندة ،فقد تجلى ان الحزام المساند الذي يتقاسم دعم مسار 25 جويلية ومقولات الفرز على اساس السيادة الوطنية واستعادة القرار السياسي، أصبح يعيش بدوره على وقع فرز داخلي بين من من يواصل الدعم غير المشروط لأعلى هرم السلطة وخيارته السياسية ، وبين من بات يطرح أسئلة عن مستقبل المسار وكيفية تجاوز الآفاق المسدودة وتحقيق المنجز الاجتماعي ووضع حد للانحراف بالشعارات