والمؤسّسات.كما يمكن القول أيضا ، أن بعث محكمة دستورية سيكون أمرا واقعا بعد الإنتهاء من تركيز المجلس الأعلى للقضاء الّذي سيكون ممثلا في هذه المحكمة المنتظرة.
فبعد الإنتهاء من العملية الإنتخابية – الّتي ستكون خاضعة هي الأخرى لمبدإ التناصف - و ثبوت سلامة إجراءاتها و تركيز هياكل هذا المجلس ستكون البلاد التونسية في طليعة الدول الّتي تضع «مؤسسة دستورية ضامنة في نطاق صلاحياتها لحسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها.»
لذلك يمكن أن نشهد ولادة أوّل مجلس أعلى للقضاء طبق الدستور الجديد في أجل يمكن ألاّ يتجاوز شهرا و خمسة أيام في صورة عدم حصول طعون في نتائج الإنتخابات، و يمكن أن يكون الأجل أقل من ذلك إذا تمت الدعوة إلى أوّل جلسة في أقل من الأجل الأقصى المحدّد بشهر. و في أقصى الحالات في أجل لا يتجاوز شهرا و 24 يوما طبق الإجراءات القانونية و في صورة رفض كل الطعون حسب أحكام القانون الأساسي عدد 34 المؤرخ في 28 أفريل 2016 المتعلّق بالمجلس الأعلى للقضاء
سنكون إذن إزاء هيكل دستورى سيؤدي الحائزون على ثقة ناخبيهم ، اليمين على أن يحافظوا صلبه، على استقلال السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والقانون و على العمل بكل حياد ونزاهة . وهي مهام ليست هيّنة في ظل دولة ما تزال تتلمّس الخطوات الأولى في إرساء لبنات الديمقراطية في ظل مناخ عام أقل ما يقال فيه أنه «غير نقي» و يعيش صعوبات حقيقية على المستوى الإجتماعي والإقتصادي والسياسي .
و بالرغم من أن هذا اليمين الّذي يؤديه الكثيرون في مواقع مختلفة غالبا ما ينسونه و ينكثونه بمجرّد المسك بخيوط سلطة ما غير عابئين بثقل ما عاهدوا به أنفسهم و ضمائرهم و الشعب، فإنّه يُنتظرُ دائما من كلّ من أدى يمينا أن يعمل على هدي مضامينه في أداء المهام الموكولة إليه.
إن الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن هيّنا ،و قد وصل الأمر إلى التلويح بعدم المشاركة في انتخابات المجلس، غير أن ترجيح مصلحة القضاء والمتقاضين و اعتبار القانون المتعلّق بالمجلس الأعلى للقضاء خطوة يمكن البناء عليها لتحقيق خطوات أخرى ، جعل المشاركين في هياكل المجلس يدعون ناخبيهم إلى المشاركة بكثافة لتحمّل مسؤولياتهم في تثبيت هذا الإنجاز.
إن الجدل الّذي حصل عند مناقشة القانون و عند إدخال التعديلات عليه ، كان بسبب بروز الرأي القائل بأن المجلس الأعلى للقضاء لا يدير شأن القضاة فقط و إنّما يدير شأنا عامّا ، لذلك كان من الضروري أن تكون كل الأطراف المتدخلة في هذا الشأن العام ضمن مكوّنات هذا المجلس كما هو معمول به في عدّة أنظمة مقارنة .
لذلك كانت مخاوف البعض من سلطة قضاة متغوّلة ،أي «سيّدة نفسها » تجد ما يبرّرها بإعتبار أن كل السلطات مهما كانت، لا بد أن تخضع لرقابة ، لأن كل سلطة مطلقة تنتهي إلى التجاوز و الحيف و إن سعت إلى العدل.
و التركيبة الّتي تمّ الإتفاق عليها وتمّ التنصيص عليها في القانون الأساسي المتعلّق بالمجلس الأعلى للقضاء تمنح للقضاة أغلبية مريحة بإعتبار أنه من بين 45 عضوا بالمجلس نجد 30 منهم من القضاة من بينهم 12 قاضيا معينين بصفتهم و 18 قاضيا منتخبين من زملائهم ، في حين نجد 15 فقط من المستقلين من مهن مختلفة .
و لكن يجب تجنّب السقوط في هذه الإعتبارات الحسابية إذا كان الهدف هو تكريس المبدأ الدستوري القائل بأن « القضاء سلطة مستقلّة تضمن إقامة العدل و علوية الدستور وسيادة القانون و حماية الحقوق والحريات . كما أن القاضي مستقل لا سلطان عليه لغير القانون ».
فإستقلالية القضاء و فرض سيادة القانون لا تكرّس عبر معادلات شكلية - رغم أهميتها- و إنّما في إعمال القيم النبيلة من عدل وإنصاف ومساواة ونزاهة، و في تطبيق القوانين بإرادة مجرّدة و خلاّقة دون حيف أو تقصير أو تواطئ أو خضوع أو خنوع . و من هذا المنطلق يُفترضُ أن يكون اختيار المترشحين مؤسّسا على مدى توفّر معايير الإستقلالية والحياد والنزاهة والإستقامة والكفاءة أيضا ، لضمان إعلاء القيم والمعايير المذكورة .
فاليوم إذن هو يوم هام في تاريخ الجمهورية الثانية ،و هو تتويج لنضالات متراكمة ساهمت فيها عدّة أجيال ، لذلك ستكون الإنتخابات الحلقة قبل الأخيرة ، بإعتبارها انتخابات عامّة لمختلف ناخبي الأطراف الممثلة في المجلس الأعلى للقضاء ، في انتظار إجراء انتخابات داخلية لرئاسة المجلس و لمختلف المجالس المكوّنة لهذا الهيكل في صيغته الجديدة .
هذه المحطّة ستكون إمتحانا للذين سيمسكون بتسيير هذا الهيكل لإختبار مدى قدرتهم على إعلاء كلمة القانون و ترسيخ قيم العدل والإستقلالية لفتح آفاق جديدة ، و للسلطة العامّة لإختبار مدى تقبّلها لمستلزمات نجاح هذا الهيكل في أداء مهامه ،و هي أيضا ، رهان على التوصل لكسب ثقة المواطن في القضاء و هي ثقة مهزوزة بكل المقاييس لا يتجرأ أحد على تفنيد صحّة ذلك .
و بالتّالي فإن الغاية لا تكمن فقط في تركيز هذا الهيكل الهام في المنظومة القضائية، أو في وضع النصوص « المنمّقة و الجميلة» الّتي يقع «التوافق» على وضعها ، أو في أداء يمين سرعان ما تُنسى مضامينه ،وإنّما يجب مجابهة الفساد بكل تجلياته و تغيير العقليات والآليات وتوفير الإمكانيات، لكي نبني سلطة قضائية عادلة وقويّة و نزيهة ومحايدة وحريصة على مقومات سلطة الدولة المدنية و قيم الجمهورية وسيادة القانون.