الوثيقة التوجهية لإعداد ميزانية 2026: التقشـف يتـواصـل

كشفت الحكومة التونسية عن منهجيتها في إعداد قانون مالية 2026 وذلك في وثيقة توجيهية

عكست استمرار المقاربة المحاسباتية في التعاطي مع الملفين الاقتصادي والاجتماعي في بلاد يتسم سياقها الاقتصادي والاجتماعي بكونه متوتر ودقيق، وقد لا تكفي رسائل الطمأنة الصادرة من الحكومة في تغييره ورسم آفاق مستقبلية إيجابية.

حكومة سارة الزعفراني، في وثيقتها التوجيهية، حافظت على ذات التمشي السابق المنتهج من قبل حكومة بودن ومن تبعها، خطوات إصلاحية منفصلة ومحدودة الأثر يراد لها أن تقدم صورة عامة مفادها أن البلاد تتقدم في إنجاز الإصلاحات الكبرى التي تهدف إلى الحد من اختلال المالية العمومية والتحكم في عجز الميزانية.

في الوثيقة التوجيهية الصادرة يوم 25 أفريل الجاري تجلت النية في الاستمرار في سياسة التقشف، عبر مجموعة من الإجراءات التي تتضمن التحكم في عجز الميزانية وتحسين التصرف في النفقات وتوجيهها، مما يبرز أن نقطة الارتكاز لمشروع قانون ماليتها المنتظر ستكون مرة أخرى ضبط التوازنات المالية والحد من اختلالها وذلك على حساب التنمية وعلى حساب الدور الاجتماعي للدولة.

تصور محاسباتي جبائي محركه الرئيسي استعادة توازن المالية العمومية دون أن ترافق ذلك خطة شاملة للإنعاش الاقتصادي الذي يمكن من دفع النمو وتحسين موارد الدولة دون التوجه إلى زيادة العبء الجبائي على الأفراد أو المؤسسات الاقتصادية، أي تعبئة موارد إضافية توجه لتعزيز الدور الاجتماعي والتنموي للدولة دون أن يكون لذلك أثر سلبي على الحركية الاقتصادية، مما يعني أننا إزاء اعادة نفس السياسة التي انتهجت منذ 2022 والتي كشفت نتائجها عن محدودية أثرها على المشهد الاقتصادي والاجتماعي بما يؤكد أنه لا يمكن الخروج من الأزمة بإصلاحات غير مكتملة محورها الأساسي والوحيد تحقيق توازن المالية العمومية والإبقاء على الحد الأدنى من الإنفاق الاجتماعي لتجنب أي توتر أو احتقان.

هذا يعني أن الحكومة فضلت الاستمرار في اللعب على التوازن الهش بين مقتضيات إصلاح المالية العمومية والنفقات الاجتماعية الملحة بنفس محاسباتي بيروقراطي همه تحقيق التوازن بين موارد الدولة ونفقاتها، وليس البحث عن سبل تحقيق الإصلاح الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.

رغم أن الوثيقة قدمت تصورا أوليا للحكومة يتضمن برامج صيانة للبنية التحتية وتوجيه النفقات إلى الاستثمار والتصرف مع التلميح إلى إمكانية مراجعة الأجور، إلا أن الكشف عن كيفية تمويلها وتنفيذها ظل غائبا دون تلميح أو تصريح مباشر إذ اقتصرت الحكومة على التعبير عن نواياها في الاستمرار في منحى التقليص من عجز الميزانية ليكون دون 5.5 ٪ وهي النسبة المستهدفة في قانون مالية 2025.

هذا التخفيض حققته الحكومة عبر مراجعة جدول الضرائب على الشركات والموظفين من ذوي الدخل المرتفع ويبدو أنها قد تواصل فيه مما قد يولد تداعيات سلبية على الاستثمار وعلى الاستهلاك، خاصة وأن التقديرات الأولية لنسبة النمو خلال سنة 2025 ، التي قدمتها الحكومة في مناقشة قانون المالية، كانت تتفاءل بتوقع تحقيق نمو بـ3.2 ٪، رقم يتناقض مع ما يتوقعه صندوق النقد الدولي والمقدر بـ1.4 ٪، مما يسلط الضوء على إمكانية أن تتعثر الحكومة في تحقيق أهداف قانون ماليتها للسنة الراهنة وما يعنيه ذلك من انعكاسات على الاقتصاد من ضعف الاستثمارات وتباطؤ الطلب الداخلي الذي لا تمتلك الحكومة أية هوامش للتحرك المالي لمجابهته خاصة وأنها مطالبة بسداد 24.7 مليار دينار كخدمات الديون، داخلية وخارجية، أي ما يعادل ثلث النفقات المبرمجة في قانون ماليتها.

هذه الأرقام تكشف عن العبء المالي الذي يحد من قدرة الحكومة على الإنفاق العمومي ذي البعد الاجتماعي أو التنموي ويبين خطر سقوط الفرضيات التي بنيت عليها التوازنات المالية، كنسبة النمو أو العجز وغيرها من المؤشرات التي قد تحول دون الاستفادة من تراجع أسعار النفط عالميا والتي كانت دون السعر المفترض في قانون المالية، وبالتالي الحيلولة دون أن تستفيد منه الحكومة في تمويل نفقات اجتماعية وتنموية باعتبار أنها ستكون مضطرة إلى توجيه نفقات التصرف والتسيير.

هذا يعني ضمنيا أن استمرار الحكومة في سعيها إلى تحقيق التوازن بين إكراهاتها المالية وهي بالأساس تقليص العجز على حساب نفقات الاستثمار التي من شأنها أن تسهم في تحفيز النمو وخلق فرص العمل، والخشية كل الخشية أن ينعكس هذا على محاولات الحكومة المحدودة لتحفيز النمو عبر وضع سقف لتطور ميزانيات الوزارات خلال السنة القادمة بـ4 ٪، توجه للاستثمار والتصرف.

بهذا المعنى، يمكن القول إن حكومة الزعفراني تواصل المراهنة على التوازنات المالية الهشة بدل البناء على رؤية اقتصادية-اجتماعية متكاملة، ما يجعل البلاد أمام خطر إعادة إنتاج نفس الأوضاع، مع ما يحمله ذلك من تهديد لتماسكها الاجتماعي واستقرارها الاقتصادي على المديين المتوسط والبعيد.

وهذا يؤكد أن الخروج من الأزمة لا يمكن أن يتم عبر أرقام محاسباتية دون مشروع تنموي، ولا عبر تقشف دون آفاق للنمو، بل هو مرتهن لتصور متكامل يجمع بين الإصلاح المالي وإعادة توزيع الثروة وتحفيز النشاط الاقتصادي بما يحقق عدالة اجتماعية ويؤسس لاقتصاد وطني صلب ومستدام.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115