نرى ان للتعليم الدور المحوري في هذه النهضة، فهو الذي يطعم الدولة والاقتصاد والمجتمع بالكفاءات ذات الجودة المرتفعة من جهة وهو الضامن للارتقاء الجماعي والفردي العلمي والاخلاقي من جهة اخرى ،ثم إن تجارب الدول التي نجحت في التفوق السريع خلال القرن الماضي تحيلنا كلها الى الدور المركزي الذي لعبته المدرسة فيه .
يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون وقياسا عليه يمكن ان نقول ان المرويات الجماعية يكتبها الناجحون، وعادة ما تحجب هذه المرويات حقائق الامور لا لانها لا تاخذ بعين الاعتبار التاريخ الفعلي لمن لم يحالفهم النجاح في مسالة فقط، بل واساسا لان هؤلاء المنسيين من مرويات النجاح عادة ما يتبنون ويدافعون عن المروية السائدة .
ينطبق هذا الامر تماما على تصورنا لتاريخ المدرسة التونسية في الدولة الوطنية فالاعتقاد السائد (خاصة عند الذين زاولوا تعليمهم في السنوات الثمانين في القرن الماضي او ما قبلها) بأن المدرسة كانت انذاك عنوان النجاح والصعود الاجتماعي وان التعليم كان في مستوى جيد للغاية ثم بدأ يتدحرج منذ التسعينات الى أن اصبح رديئا اليوم .
قصة النجاح الغابر للمدرسة التونسية في الحقيقة، هي قصة الذين نجحوا في اجتياز ر حواجزها السميكة وانتقائيتها الكبيرة وهؤلاء أضفوا نجاحهم على كامل المؤسسة المدرسية .
لا نريد أن نثقل عليكم بالارقام، لكن يكفي أن نعرف أن المعدل الذي كان يقضيه التلاميذ سنة 1973 (اي 15 سنة بعد اول اصلاح للتعليم الي قام به الوزير محمود المسعدي) للحصول على شهادة» السيزيام «هو 10.2 من السنوات اي ان معدل الرسوب للناجحين في امتحان ختم الدروس الابتدائية هو أربع سنوات مع العلم ان حوالي %40من التلاميذ فقط يتمكنون من النجاح في هذا الامتحان .
في نفس تلك السنة الدراسية (1973 - 1974) كانت نسبة التمدرس للشريحة العمرية 12 - 18 سنة دون الخمس (%19.2) كما أن عدد الطلبة انذاك كان لا يتجاوز 12000 بينما وصل الى 340.000 في العشرية الأولى هذا القرن. .هذا دون الحديث عن التفاوت الضخم بين مختلف ولايات البلاد ذلك ان نسبة التمدرس للفئة العمرية بين6و 14 سنة كانت 78.9 % في ولاية نابل و44،9 % في ولاية القصرين .
نجد كل هذه الارقام وغيرها في دراسة اعدها البنك الدولي سنة 1975 بطلب من الحكومة التونسية تحت عنوان « تقييم لمشروع تربوي ثالث في الجمهورية التونسية»
ملخص القول ان النجاح الذي نتحدث عنه انما كان نجاح فئة قليلة من شباب العقدين الاوليين لدولة الاستقلال .
نجاح لم تحرم منه الجهات الداخلية او الفئات الشعبية لكن بمقادير اقل بكثير من نظرائهم في المدن الساحلية وفي العائلات ذات راس المال الرمزي المرتفع نسبيا، لكن وصول العديد من افراد شباب المناطق الداخلية والفئات الفقيرة الى مستويات علمية متقدمة مع تقلد مسؤوليات هامة في الدولة قد تحجب عنا حقيقة اللامساواة المجحفة للمدرسة التونسية في عقود الاستقلال الاولى .
من هنا يمكننا أن نقرا جل الإصلاحات التي جدت في البلاد للمنظومة التربوية كمحاولات متعددة للحد من هذه الانتقائية المفرطة حتى يتمكن جل فتيات وفتيان تونس من النجاح المدرسي ومن الوصول إلى حلم كل العائلات وهو شهادة البكالوريا اولا والشهادة الجامعية ثانيا ..
فعلا حصل نجاح نسبي في الكم اذ أصبح معدل الحصول على شهادة الباكالوريا في حدود %50 (يصل هذا المعدل الى أكثر من 90 % في بعض الدول الصناعية )، لكن ما تم تجاوزه على مستوى الكم تمت خسارته على مستوى الكيف، ففي اخر دورة للدراسة الكبيرة التي تقوم بها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE)التي شاركت فيها تونس سنة 2015( ثم انقطعنا عن ذلك الى حد الان) لتقييم مكتسبات التلاميذ البالغ سنهم 15 سنة (PISA) والتي يقسم فيها مستوى التلاميذ الى ست درجات: دون الاثنين ضعيف وفوق الخمسة ممتاز .. نجد أن نسبة التلاميذ دون الدرجتين في تونس هي %65.9 بينما لم يكن ضمن الممتازين سوى 0.0 % ولقد كانت هذه النسب سنة 2006 على التوالي : %62.8 و%0.1
لنقارن تونس ببلد آسيوي صاعد في صمت : الفيتنام
نسبة التلاميذ دون الدرجتين هنالك هي %5.9 فقط بينما معدل دول منظمة التعاون ،اي الدول الأكثر تقدما نظريا في حدود 21.3 % بينما تكون نسبة التلاميذ الممتازين في الفيتنام 8.3 % مقابل %7.7 في دول منظمة التعاون .
علما بأن العينة التي مثلت تونس سنة 2015 تكونت من 4000 تلميذ وتلميذة موزعين بصفة اعتباطية على كل مناطق الجمهورية بين تعليم عمومي والتعليم الخاص وتراوحت المستويات التعليمية من السنة سادسة ابتدائي الى الثانية ثانوي. الاساس في هذه الدراسة ليس المستوى التعليمي، بل السن وهي طريقة جيدة للغاية لقيس نجاعة المنظومة التربوية ككل بما في ذلك مستويات التدرج والرسوب فيها،ثم يُرسل برنامج متابعة مكتسبات تلاميذ (PISA) تقريرا مفصلا الى كل بلد مشارك ولكن الحكومة التونسية (زمن يوسف الشاهد ) قررت مقاطعة (pisa) وقبلها لم تشارك تونس في TIMSS لسنة 2015 وهي دراسات عن مستوى التلاميذ في الرياضيات والعلوم للمستويين الرابع والثامن من التعليم الاساسي تقوم بها الجمعية العالمية لتقيييم المحصلات التربوية.
وهكذا بدلا من من الاستفادة من هذه الدراسات التفصيلية حول حقيقة مكتسبات التلاميذ ومقارنتها ببقية الدول العالم اختارت الدولة التونسية – الى حد الآن – سياسة غض البصر والانكار.
إن كل محاولة لاصلاح المنظومة التربوية لا تاخذ بعين الاعتبار هذا الواقع التفصيلي النوعي والكمي للمدرسة التونسية اليوم ستبوء حتما بالفشل وستحكمها ذهنيات وايديولوجيا الكهول بدلا من البحث الجدي حول أسباب اخفاق مدرستنا في الارتقاء.
ان معيار النجاح المدرسي للبلاد لا يكمن في تفوق جزء يسير من خريجي المدراس والجامعات بل في التفوق الجماعي للمنظومة وذلك وحده يحدث الفارق الحقيقي في المجتمع.
ويقتضي الاصلاح العقلاني رسم أهداف مرقمنة كنزول نسبة التلاميذ ضعيفي المستوى من الثلثين سنة2015 (ولا ندري هل تفاقمت هذه النسبة اليوم أم لا ) الى دون النصف في ظرف خمس سنوات مثلا وتجاوز الصفر في نسبة التلاميذ المفوقين الى 2 او 3 % مثلا ، دون هذا لن يكون هنالك اصلاح ولن يكون هنالك نجاح ..
النجاح المدرسي يقتضي العمل الجدي ضد اللامساواة في جميع مظاهرها : اللامساواة في البنية التحتية للمدرسة واللامساوة في الاطار التربوي ..ومقاومة اللامساواة هنا هي خيار مجتمعي عام يقوم على توفير افضل الفرص للتلاميذ الاقل حظا اجتماعيا.
ولكن الإصلاح الأعمق والأشمل هو حول مختلف أوجه تكوين الاطار التربوي ونوعية المدارس القادرة على مثل هذا الارتقاء السريع
لابد للمدرسة منذ السنة التحضيرية ان تعد التلاميذ للتفوق في الرياضيات مع ما يقتضيه ذلك من قدرة على الحدس والاستنتاج والبرهنة والتفوق، كذلك في اللغات مع فهم مختلف أبعاد النصوص وتكوين الروح النقدية وادخال المستويات المناسبة من التفكير الفلسفي منذ الصغر.
وهذا النوع من التدريس يقتضي صنفا خاصا من المربين لهم الثقافة الرياضية لا تقنياتها فقط والقدرة على تدريب صغار السن على التفكيك والتاليف والتفكير والا يكون تلميذ واحد خارج سياق التميز والتفوق وذلك منذ الصغر.
ولكي تتمكن المدرسة من لعب هذا الدور الجوهري لابد من كسر عادات وتقاليد باتت اليوم صلبة في تونس، اولها مكانة المربي المادية والأدبية وآخرها التعويل على الدروس الخصوصية منذ الصغر، لا لتكوين الامتياز بل للنجاح بمعدلات مرتفعة في الامتحانات والفرق بين الامرين شاسع..
لقد تخلت الدولة عن مهمة التفوق المدرسي لكل التلاميذ منذ اكثر من 40 سنة عندما أنشأت المعاهد ثم الاعداديات النموذجية والتي لا تشمل سوى 2 % من مجموع التلاميذ فقط وتركت مسألة التفوق والنجاح على عاتق العائلات والدروس الخصوصية واكتفت المدرسة بتقديم ما يعتقد انه الحد الأدنى، ولكنه في حقيقة العالم اليوم دون الحد الأدنى بكثير.
هل نحن واعون بما فيه الكفاية بمثل هذه التحديات الكبرى؟ ببدو ان انغماس الجميع دولة ومؤسسة تربوية وعائلات في النجاح الظرفي في الامتحانات قد حجب عنا الأساسي : التفوق للغالبية الساحقة من صغارنا اليوم شرط إمكان خروج بلادنا بعد عقدين اَو ثلاثة من سجن الدول ذات الدخل المتواضع.
إصلاح التعليم كي يضمن التفوق للجميع هو بداية الإصلاح الحقيقي لتونس والاخفاق اخفاقنا جميعا.