تونس والحاجة إلى صدمة استثمارية

لا حاجة الى القول بأن الاقتصاد الوطني يعاني من هشاشة تفاقمت مع جائجة الكوفيد

التي لم نغادر بعد مربع تداعياتها رغم مرور 4 سنوات ويعاني الاقتصاد مما يشبه الركود الذي تعثرت محاولات الخروج منه خلال السنوات الفارطة بسبب العجز عن تحقيق نمو اقتصادي مستدام قادر على خلق الثروة وتوفير فرص العمل، اذ ان الاقتصاد التونسي ورغم المحاولات والنوايا الطيبة لكل الحكومات التي تداولت على القصبة لم يشهد تحسنا جوهريا يمكنه من تجاوز افاته والتعافي لمغادرة الازمة الهيكلية التي برزت ملامحها منذ 2005. وقد استمرت محاولات التدخل التي تعالج الاشكاليات الظرفية مما ساهم تعقيد الوضع عامة.

نحن اليوم امام اقتصاد يعاني من متلازمة النمو الهش، الذي تتجلى ملامحه في ضعف القدرة الشرائية اي في ضعف الاستهلاك الداخلي، وفي ضعف القيمة المضافة في مختلف القطاعات الإنتاجية، وفي محدودية فرص العمل التي يحدثها.

هذه المحاولات التي تكررت وتشابهت في جوهرها لم تغير من واقع الاقتصاد التونسي ولم تمكن من تجاوز اختلالاته الهيكلية التي تعيق أي إمكانية لتحقيق نمو مستدام، فكل الاصلاحات او محاولات الاصلاح التي شهدتها البلاد لم تعالج ابرز نقاط الضعف في الاقتصاد وهي محدودية طاقته التشغيلية، التي ادت اليوم الى ان تبلغ نسبة البطالة 16.1 % وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء، وهي نسبة تعكس العجز المستمر في استيعاب القوى العاملة، خاصة من الشباب ومن حاملي الشهادات العليا.

حل هذه الازمة لا يمكن ان يكون بالمراهنة على الوظيفة العمومية التي لم تعد قادرة على استيعاب العاطلين الذين كان يفترض ان يتم استيعاب جزء كبير منهم في القطاع الخاص باعتبار ان الاخير هو المحرك الرئيسي لسوق الشغل، لكن ونظرا لضعف الاستثمارات خلال العقد الاخير تقلصت فرص العمل لنكون امام حلقة مغلقة تعيد انتاج نفسها وازمتها، فالاقتصاد ذو الطاقة التشغيلية الضعيفة يؤدي الى ترادع الطلب الداخلي وضعف الاستهلاك وهذا يقود الى تراجع الاستثمارات تدريجيا مما يفاقم من البطالة التي لا يمكن الحد منها بالاعتماد على قطاعاتنا الانتاجية التقليدية مثل الفلاحة والصناعات التحويلية البسيطة والسياحة، وهي قطاعات رغم أهميتها، لا توفر فرص عمل هامة ولا تحقق قيمة مضافة عالية ولا تخلق ثروة كافية لدفع عجلة الاقتصاد.

اقتصادنا لا ينتج قيمة مضافة ولا يسمح بطفرة استهلاكية ولا يمكن من التشغيل، هذه العناصر أفرزها اليوم اقتصادنا وهي التي تشكله وتشكل عناصر ازمته الهيكلية، مما يعني ان اية محاولة للخروج من هذه الوضعية يجب ان تقطع مع الإجراءات التقليدية أو الإصلاحات التدريجية او الترقيعية وان تتجه الى خطط طموحة تجابه كل نقاط ضعف الاقتصاد، وهذا يمر عبر صدمة استثمارية قوية تضعه في مسار التعافي.

هذا المسار الذي يراد في نهايته ان تتم إعادة إنعاش الاقتصاد التونسي لا يمكن المضي فيه دون استثمارات ضخمة تستهدف القطاعات ذات القيمة المضافة العالية وتُعيد تنشيط التشغيل والاستهلاك الداخلي، اي استثمارات في مشاريع كبرى محدودة العدد يمكنها ان تحدث صدمة استثمارية في البلاد.

وحتى تحقق الصدمة تأثيرها الايجابي لابد من أن ترتكز سياساتنا العمومية المؤطرة لها على تحفيز الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية، من خلال توجيه الاستثمارات نحو الصناعات التكنولوجية والطاقات المتجددة والصناعات الدوائية، وهي مجالات قادرة على تحقيق تحول اقتصادي جوهري، عبر زيادة القيمة المضافة، وتحفيز الابتكار، وخلق فرص عمل ذات جودة عالية.

هذه الاستثمارات لن تكون ممكنة ما لم يقع تحفيز المستثمرين المحليين وخاصة الأجانب أساسا على الاستثمار في هذه المجالات ذات القيمة المضافة، وهذا يقترن بامرين: اولا تحسين مناخ الأعمال عبر إزالة العوائق البيروقراطية التي تعطل المشاريع، وتقديم حوافز جذابة للمستثمرين و يضمن تدفق رؤوس الأموال نحو المشاريع الإنتاجية.

ثانيا ان تبادر الدولة التونسية الى ضخ استثمارت عمومية في مشاريع استراتيجية يمكن ان تكون بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، فهذه المشاريع يمكنها أن تُحدث تحولات جوهرية في الاقتصاد التونسي، على غرار محطات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح او الهيدروجين، فهذه المشاريع تسمح بتدفق راس مال اجنبي هام كما انها تقلص من العجز الطاقي وتوفر آلاف الوظائف الجديدة، كما أن إنشاء مناطق صناعية متخصصة في الصناعات التكنولوجية والصيدلانية من شأنه أن يستقطب الشركات الأجنبية ويعزز قدرة تونس التنافسية في هذه القطاعات. إلى جانب ذلك، فإن توسعة الموانئ التونسية وتحويلها إلى مراكز لوجستية إقليمية، سيزيد من القدرة التنافسية للتجارة التونسية في إفريقيا وأوروبا، فضلاً عن ضرورة الاستثمار في التقنيات الزراعية الحديثة، مما سيرفع الإنتاجية ويوفر الأمن الغذائي ويقلص من فاتورة التوريد.

يجتاج هذا الى بنية تحتية متطورة تضمن تنقل الافراد والسلع بسلاسة الى داخل تونس او الى خارجها، ما نحن امامه اليوم خياران: إما الاستمرار في السياسات الاقتصادية التقليدية التي لم تُحقق سوى المزيد من الركود والبطالة، أو تبني رؤية جديدة تقوم على استثمارات جريئة تُعيد رسم الاقتصاد التونسي عبر صدمة استثمارية باتت ضرورية لإنقاذ البلاد

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115