وبعد قوافل الشهداء والتي لن تقل للأسف عن خمسين ألف شهيد هذا إن لم تتجاوز كثيرا هذا الرقم علاوة على العدد المهول من جرحى حرب الابادة هذه (أكثر من مائة وعشرة آلاف ) .. فالحديث عن الانتصار بالنسبة لهؤلاء ليس بلا معنى فقط لكنه أيضا بلا رأفة وبلا احساس بعذابات ودموع والام الضحايا ..
انسانيا هذا الاعتراض لا يخلو من وجاهة، لكننا كنا في حالة حرب مدمرة وفي الحرب هنالك دوما منتصر ومهزوم ولا يوجد فيها لما قد يسمى بالتعادل.. هنا نتمنى ألا يكون الاعتراض عن الحديث عن انتصار المقاومة استبطانا لهزيمتها واستهجانا لوجودها اصلا..
لا أحد يدّعي أن المقاومة الفسطينية ، بكل فصائلها ، قد انتصرت عسكريا على دولة الاحتلال ولا أحد –داخل المقاومة وخارجها من أنصارها– كان يعتقد أن دولة الاحتلال ستزول بعد عملية طوفان الاقصى، فنحن في حرب لا متكافئة بكل المقاييس العلمية والتكنولوجية وباعتبار القوة الضاربة لعتاد الكيان الصهيوني جوّا وبرّا وبحرا وبحجم المدد الذي كان يصله دون انقطاع من الولايات المتحدة الامريكية بالتعاون اللصيق بينه وبين مخابرات الدول الغربية الكبرى الاخرى .
رغم كل هذا ورغم ألمنا لحجم الابادة وبكل عقلانية باردة نقول بأن المقاومة الفلسطينية (وعلى رأسها حركة حماس وكتائب القسام وحركة الجهاد الاسلامي وكتاب الاقصى وكل الفصائل التي ساهمت بما أمكن في الكفاح المسلح ) نقول أن المقاومة الفلسطينية قد انتصرت في هذه الحرب الظالمة ليس فقط لاضطرار الكيان الصهيوني للتفاوض، غير المباشر ، مع المقاومة المسلحة وتحديدا مع حركة حماس، كذلك ليس فقط لعجزه عن تحقيق أهدافه المعلنة من هذه الحرب القذرة، وهي القضاء عسكريا وسياسيا على «حماس» وتحرير الرهائن بالقوة واجتثاث روح المقاومة وهدفه الواضح وغير المعلن ، دوما هو تهجير اهل غزة ..
وانتصرت المقاومة ليس فقط لقدرتها على الصمود الاسطوري وبقائها متماسكة رغم الضربات الموجعة التي تلقتها ورغم استهداف حلفائها ..
وانتصرت المقاومة ليس فقط بسبب الفرحة العارمة في الشارع الفلسطيني في غزة والضفة والقدس.. من مازال يشكك في انتصار المقاومة فليعطنا مثلا واحدا على فرحة شعب ما بالهزيمة ..
إن صمود كتائب القسام وكل الفصائل المتحالفة معها واجبار العدو على التفاوض (اي الاعتراف) مع حماس رغم حملات الشيطنة العالمية والعربية ايضا للمقاومة الفلسطينية ..كل هذا يمثل عناصر واضحة لتحول استراتيجي في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي سيفتح حتما ممكنات كانت مغلقة قبله ..
قد يقول بعضهم : الثمن كان باهظا للغاية وحماس ادخلت غزة وفلسطين بطوفان الاقصى في مغامرة غير محسوبة العواقب ..
الثمن كان باهضا دون شك، لكن هؤلاء ينسون بعض الحقائق البسيطة:
- تعيش فلسطين استعمارا استيطانيا يريد ازالة شعب بأسره من الجغرافيا ومن التاريخ ايضا ، وهذا الاستعمار الاستيطاني جاثم على ارض وشعب فلسطين منذ 76 سنة .. ترى متى تمّ التخلص من الاستعمار بصفة سلمية ؟ هل هنالك تجربة واحدة في العالم تحصل فيها شعب على حقوقه الوطنية دون تضحيات جسام ؟ !
لنفترض أن عملية 7 اكتوبر لم تستهدف إلا القوات المسلحة الصهيونية ولم تتعرض الى مدني واحد ولم تأخذ رهينة واحدة وأن المقاومة قد تمكنت من قتل عشرات الجنود الاسرائيليين مثلا فقط لا غير، ترى هل كانت ردة فعل الكيان المحتل أقل عنفا وجنونا ودمارا ؟ ! صحيح أننا لا نستطيع صناعة التاريخ بالفرضيات، لكننا على يقين أن آلة الدمار الصهيونية كانت ستكون أعنف وأشرس وأطول لأنها ستعتبر ببساطة – وهي محقة في ذلك – انه حصل اختراق أمني كبير لمنظوماتها الدفاعية والاستخباراتية لذلك ستنتقم أشد انتقام من المقاومة ومن أهالي غزة والضفة ولبنان والعالم بأسره إذا لزم الأمر ..
همجية وفظاعة وإجرامية الردّ الصهيوني ليست لها علاقة بما حصل يوم 7 أكتوبر بالضبط بل بجرأة المقاومة على اختراق «حدود» الدولة العبرية .
ما المطلوب من حركة حماس ومن كل الفصائل المقاومة الفلسطينية ؟ الاحتجاج السلمي بين الفينة والأخرى ؟ مواصلة حياتهم اليومية المليئة بالإهانة والتفتيش والسجن وتدمير المنازل وتهجير الاهالي وبناء المستوطنات الوحشية وكأن شيئا لم يقع ؟ ! هل من المعقول أن يعاب على الفلسطينيين حبهم لوطنهم ولأرضهم ورغبتهم – على مختلف اجيالهم وأديانهم وفصائلهم وتوجهاتهم – في تحرير بلادهم واسترجاع أرضهم السليبة ؟ لا يُستغرب أن يقوم بمثل هذا من يستحسن استعمار الشعوب واستعبادها ومن يعتبر أن للاستعمار «محاسن» استفادت منها دول الجنوب ! أما من يعيب على الفلسطينيين نضالهم من أجل التحرير والحرية وهو – أو هي – سليل الاجيال التي عانت من ويلات الاستعمار وبطشه فهذا عين الغرابة !
إن ما حصل في فلسطين منذ انشاء الكيان الصهيوني على ارضها لا نظير له في الاستعمار الذي شهدته جل الدول العربية والإفريقية باستثناء ما وقع لجنوب افريقيا ولزمبابوي .
ثمة فرق كبير وعميق بين الاستعمار الكلاسيكي – كالذي شهدته بلدان كتونس والمغرب وليبيا مثلا– والاستعمار الاستيطاني كالذي شهدته كل الاراضي الامريكية من اقصى شمالها الى اقصى جنوبها كذلك استراليا وزيلندا الجديدة ..
يخطئ من يعتقد أنه من السهل التخلص من هذا الصنف من الاستعمار بل يخطئ من يعتقد أن الاستعمار الاستيطاني سائر بطبعه الى الزوال ..
انظروا من الكندا الى الشيلي .. أين هم السكان الاصليون؟ لقد اصبحوا اقليات عرقية في الغالبية العظمى للدول المكونة اليوم لما كان يسمى بالعالم الجديد هذا لو استثنينا بعض البلدان كالبيرو وغواتيمالا وبوليفيا ..
انهم يعدون اليوم حوالي 50 مليون نسمة من اصل اكثر من مليار من متساكني الامريكيتين ، نفس الامر يصح على استراليا وزيلندا الجديدة مثلا ..
لقد تمت ابادة شعوب بأسرها والى الابد ، هذا ما لا ينبغي ان يغيب عنا ونحن نسعى لفهم ما يقاسيه الشعب الفلسطيني امام استعمار استيطاني غاشم تدعمه كل الدول الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة – اكبر استعمار استيطاني في تاريخ البشرية – ورغم هذا التهجير والحروب التي ادت الى وجود حوالي 6 ملايين فلسطيني خارج فلسطين التاريخية مازال الشعب الفلسطيني في غزة والضفة والقدس وفي مخيمات اللاجئين في الاردن ولبنان وغيرها متشبثا بأرضه وبحق العودة وبحقه في دولة فلسطينية ذات سيادة وبحقه في مقاومة الاحتلال بكل الطرق بما في ذلك الكفاح المسلح ..
الاكيد ان الفلسطينيين ،ككل شعوب العالم ، ليسوا على قلب رجل واحد كما يقال، لكن هذه الثوابت الوطنية ما انفكت تترسخ عندهم، وطوفان الاقصى والحرب الابادية التي تلته والصمود الاسطوري للمقاومة، كل هذا عمّق هذه الثوابت وكل هذا الذي يشكل الانتصار الحقيقي للفلسطينيين شعبا ومقاومة ، فما دام هنالك فلسطينيون متشبثون بحقوقهم في الارض وفي السيادة لن يكون الكيان الصهيوني في مأمن وأمان مطلقا..
اليوم الإمتحان الأكبر للمقاومة وللشعب ليس فقط في إعادة إعمار غزة بل في فتح آفاق سياسية جديدة للقضية الفلسطينية