وتتعدد قراءاتهم التي تعتمد على ثنائية الخير والشر بشكل مطلق. وهو ما نجده اليوم في النقاش العام الذي هيمن على منصات التواصل الاجتماعي في علاقة بقرار عمادة الأطباء زيادة تعريفة الاستشارة الطبية.
قرار بررته العمادة في بيانها بتأثر المقدرة الشرائية للأطباء، خاصة بعد زيادة الضرائب عليهم في إطار مراجعة الجدول الضريبي للمهن الحرة، وهو ما انحرف بالنقاش إلى جزئيات وتفاصيل هامشية تنحصر إما في انتقاد الأطباء واتهامهم بالجشع أو في الدفاع عنهم والمقارنة بين السلوكيات الاستهلاكية للتونسيين التي تقوم على معايير مزدوجة تقبل بدفع مبالغ طائلة مقابل خدمات وترفض أن تدفع مقابل أخرى.
جدل انحرف بالنقاش العام عما اعتقد أنه الموضوع الجوهري، وهو نظام ضريبي نصوغه ويحقق هدفين أساسيين: تعبئة موارد الدولة وترسيخ التضامن المجتمعي. وهذا في اعتقادي ما أثاره بيان عمادة الأطباء الذي لا يمكن أن يُهاجم فقط لدفاعه عن ما تراه العمادة المقابل المجزي والعادل للخدمات الصحية في القطاع الخاص.
ما كشفه قرار عمادة الأطباء أن الرفع من العبء الضريبي على الأطباء الخواص بقرار إداري، حتى وإن كانت نواياه سليمة وطيبة، إلا أنها تسقط التشاركية والتفاعل مع كل قطاع على حدة من أجل ضمان التوازن بين متطلبات الدولة في تعبئة الموارد وحماية الحقوق الأساسية للمواطنين وتحفيز الابتكار في القطاعات الحيوية، أي أن نحقق العدالة الضريبية دون أن تؤثر سلبًا على التضامن المجتمعي، والقصد هنا دون أن يلجأ كل قطاع وأهله إلى ترحيل العبء الضريبي على غيره.
وكل هذا دون أن يُسقط عنصر الأزمة الاقتصادية والمالية والتحديات التي نواجهها كأفراد ومجموعات ومجتمع لا يمكنه أن يقوم دون تضامن بين أفراده ومجموعاته، خاصة إن كانت أمامه تحديات اقتصادية صعبة تستوجب منها الاتجاه إلى خيارات صعبة لتجاوز أزمتها والحفاظ على تماسكها، أي أن نطرح سؤالًا عن مدى قدرة أنظمتها على تحقيق هذين الشرطين: عدالة جبائية تحظى بقبول مجتمعي يحول دون أن يتم التهرب منها أو أن يقع ترحيل أعباء الضغط الضريبي إلى الطرف الأضعف في المعادلة، وهو المستهلك، سواء أكان لخدمة أو بضاعة، ومنها الصحة والخدمات الصحية.
ذلك ما نحن أمامه بعد أن قامت الحكومة بمراجعة الجدول الضريبي وأقرت الترفيع في الضرائب المفروضة على المهن الحرة لتبلغ متوسط 35 % من الدخل السنوي، دون أن يفتح نقاش سابق يتجنب أن يكون تعديل نسبة الضريبة عبئًا يُضاف على تكاليف التشغيل المتعلقة بإدارة العيادات، من إيجار وأجور ومعدات وتأمين، وكيف يمكن أن نصل إلى معادلة تضمن دخلًا ماليًا مجزيًا للأطباء لتحفيزهم لا فقط في القطاع الخاص بل في القطاع العمومي كذلك من خلال مراجعة شاملة وتقييم دقيق يسمح برسم سياسات عمومية تحقق الهدف المنشود، وهو ضمان خدمات صحية لمختلف التونسيين في كل الجهات.
بلا أن يكون الهاجس الرئيسي للتعديل على جدول الضريبة تحقيق التوازن المالي وتعبئة موارد إضافية لخزينة الدولة، التي باتت العائدات الجبائية تمثل أكثر من 75 % منها، وهذه النسبة تكشف عن الاعتماد المتنامي والضخم على الضرائب لتمويل نفقات الدولة وتدخلاتها مما يسلط ضغطًا على كل القطاعات والأفراد، لينتهي إلى أن يختل توزيع العبء الضريبي بين الأفراد والفئات في المجتمع الذين ينتظرون من السلطات العمومية أن توفر لهم مقابل الضرائب خدمات تشمل الصحة والتعليم والخدمات الإدارية وغيرها من الخدمات العمومية التي ينتظر أن تكون عالية الجودة.
ضعف هذه الخدمات أو تراجع جودتها نظرًا لتدهور البنية التحتية والضغط المتزايد على منشآت الصحة العمومية لا يمكن أن يُعالج بمقاربة محاسباتية تهتم بتعبئة الموارد وتسقط معطيات إحصائية، من بينها حجم إنفاق التونسيين ونسبته من دخل الأفراد والأسر، ومساهمة قطاع الصحة في نسبة التضخم حيث تشير أرقام المعهد الوطني للإحصاء الخاصة بشهر ديسمبر 2024 إلى ارتفاع الأسعار في قطاع الصحة بـ8.4 % مقارنة بذات الشهر من سنة 2023 حسب الانزلاق السنوي.
ورغم أن البلاد تخصص حوالي 7.3 % من ناتجها المحلي الإجمالي للصحة، إلا أن 60 % من الإنفاق الصحي تتحمله الأسر مباشرة عبر تخصيص 5.8 % من دخلها السنوي للنفقات الصحية، وهو ما يمثل عبئًا كبيرًا على توازناتهم المالية خاصة في ظل تراجع جودة الخدمات المقدمة من القطاع العمومي نتيجة نقص الموارد والاكتظاظ وتهرؤ البنية التحتية، أي أن القطاع الخاص بات ملاذًا لشريحة واسعة من التونسيين للحصول على الرعاية الصحية، وأن أي ضغط جبائي سينعكس مباشرة عليهم.
ما نريد الإشارة إليه هنا ليس إنقاذ مراجعة الجدول الضريبي وتعديله لتحقيق العدالة الجبائية، بل الإشارة إلى ضرورة أن يتزامن تحقيق هذا الهدف مع الانتباه إلى أن التوزيع العادل للعبء الضريبي يجب أن يكون متوازنًا، يأخذ بعين الاعتبار طبيعة القطاعات الاقتصادية، التفاوتات الاجتماعية، والتحديات التي تواجه المهنيين في القطاعات الحيوية مثل الصحة، لا فقط تعبئة الموارد.
العدالة الضريبية لا تتوقف عند جمع الموارد، بل تشمل كيفية توزيعها وضمان أن تعود بالنفع على المجتمع بأكمله. فالضرائب ما هي إلا وسيلة لتحقيق المساواة الاجتماعية وضمان أن يقع عبءها على فئة دون أخرى. فالترفيع من نسبة الأداء على الأطباء وقع ترحيله إلى المستهلكين، مما أثر سلبًا على مبدأ الإنصاف والتكافل اللذين يعززان التضامن المجتمعي.
العدالة الجبائية ليست مجرد مسألة تقنية أو مالية أو شعار يُرفع، بل هي انعكاس لمدى احترام الدولة لعقدها الاجتماعي مع مواطنيها، الذي يقوم على عدة ركائز، منها نظام ضريبي يحقق التوازن بين الإنصاف والتضامن ويحفز الابتكار، دون ذلك، نحن أمام تهديد بتفكيك الروابط الاجتماعية وإضعاف الثقة في قدرة الدولة على قيادتنا نحو مستقبل أكثر عدلًا واستدامة