واستشراف مستقبل سوريا الذي بات اليوم يصاغ من منطلق سياسة الأمر الواقع وموازين القوى التي لم تستقر بعد.
انهيار نظام بشار الأسد ومغادرته إلى روسيا يوم الأحد الفارط، خلق واقعاً سياسياً وميدانياً واستراتيجياً لا يتعلق بسوريا فقط بل بكامل المنطقة التي اضحت اليوم حجر الأساس في عملية إعادة تشكيل التوازن الدولي والصراعات في ظل معطى ظهر خلال الساعات الفارطة وهو تفاجؤ الجميع بسرعة انهيار النظام لا بالانهيار في حد ذاته، مما حال دون أن يقع التوافق على ترتيبات اليوم الموالي، أي عملية انتقال السلطة وطبيعة من سيديرون سوريا في المرحلة الانتقالية القادمة اضافة الى عدد آخر من التفاصيل التي كان اللاعبون الدوليون والإقليميون يراهنون على حسمها خلال أيام قبل سقوط الأسد.
هذا الوقوع السريع الذي لم تظهر اسبابه بعد، خلق واقعاً مختلفاً كلياً، يتمثل في فراغ في السلطة وعدم الاتفاق على خارطة طريق لسوريا من الفاعلين المحليين والجهات التي تقف خلفها وتدعمها من اللاعبين الإقليميين والدوليين.
هذا الفراغ سارعت جبهة تحرير الشام إلى ملئه بخطوات متواترة انطلقت بإعلان زعيمها محمد الجولاني واسمه الحقيقي «أحمد الشرع»، لدى وصوله إلى العاصمة دمشق عن أن رئيس الحكومة السورية محمد الجلالي سيواصل إشرافه على إدارة البلاد إلى حين تعيين حكومة جديدة مع دعوة موظفي الدولة إلى استئناف أعمالهم بمن فيهم قوات الشرطة والأمن.
هذه التصريحات التي رسم من خلالها الجولاني ملامح الانتقال السياسي في سوريا من حكومة الأسد إلى حكومة المعارضة المسلحة التي انتصرت، لم تمض عليها ساعات حتى انطلق في تنزيلها على أرض الواقع، ليعلن يوم أمس الاثنين عن تكليف محمد البشير بتشكيل حكومة الإنقاذ السورية ورئاستها (حكومة انتقالية).
تكليف أعلن عنه إثر اجتماع حضره قائد إدارة عمليات المعارضة المسلحة محمد الجولاني (أحمد الشرع) ومحمد البشير ورئيس وزراء حكومة النظام السابق محمد الجلالي والذي اعلنت بموجبه جبهة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) عن هيمنتها العسكرية والسياسية على العاصمة السورية دمشق.
وقد سبق لمحمد البشير، رئيس حكومة الإنقاذ الوطني المكلف أن شغل منصب وزير التنمية والشؤون الإنسانية في حكومة الإنقاذ التي شكلتها جبهة تحرير الشام في إدلب، وهو من القيادات الإدارية للجبهة التي بسطت سيطرتها وحكمها على إدلب وأجزاء من حماه بواسطة حكومة شكلت منذ 2017 مما يعني بشكل صريح أن جبهة تحرير الشام، القوة العسكرية والميدانية الأبرز اليوم في المشهد السوري إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية، قد انطلقت في رسم ملامح سوريا المستقبلية بأخذ زمام المبادرة وإطلاقها لمسار تشكيل حكومة سورية لم تعرف بعد الأطراف التي ستدعى للمشاركة فيها وما التوازنات التي ستحكم تركيبتها.
هذه الخطوة السياسية تزامنت مع تحركات ميدانية بسحب المقاتلين التابعين لجبهة تحرير الشام أو المتحالفة معها على غرار المجموعات المسلحة الضعيفة التي تنشط مستقلة في عدة مدن سورية والاقتصار على انتشار قوات محدودة مكلفة بحماية المنشآت والمقرات الرسمية والاقتصادية.
سحب العناصر المسلحة من الشارع وتوجيه تعليمات اليها بعدم حمل السلاح في الشارع وعدم إطلاق النار في الهواء احتفالاً بالانتصار و عدم القيام بةأعمال ةثأر أو انتقام أو عنف التي قد تؤثر سلباً على الصورة التي تريد جبهة تحرير الشام اليوم ترسيخها عن نفسها كطرف سياسي معتدل يمكن أن يقود المرحلة الانتقالية في سوريا بواسطة شخصيات من الصف الثاني على غرار محمد البشير.
ورغم هذه الصورة التي تعلنها، الا انها وبشكل غير مباشر سمحت بتدفق المسلحين على العاصمة دمشق، إذ استمر وصول هؤلاء المقاتلين يوم أمس قادمين من عدة مناطق ومدن سورية، في وقت تواصل فيه قوات جبهة تحرير الشام تقدمها العسكري في اتجاه الساحل السوري، خاصة اللاذقية، مما يلمح إلى وجود تعليمات تقضي بجلبهم إلى العاصمة تحسباً لأية تطورات ممكنة.
القصد هنا ليس السيطرة على العاصمة فقط لضمان تأمينها وتأمين عملية الانتقال السياسي والتوقي من أي فرضية ممكنة، خاصة في ظل عدم الاتفاق بين جبهة النصر وباقي أبرز المكونات المسلحة في سوريا على رأسها قوات سوريا الديمقراطية التي تخشى من إمكانية استهدافها وتقليص نفوذها، خاصة بعد أن فقدت السيطرة على منبج في ريف حلب والتي باتت تحت سيطرة قوات جبهة تحرير الشام.
هذا الواقع يشكل مشهداً معقداً متعدد التفاصيل واللاعبين، ذلك ان جبهة تحرير الشام تسعى الى السيطرة على مساحات واسعة من الأرض ميدانياً بهدف فرض نفسها كفاعل أساسي قد يكون الوحيد في مسار الانتقال السياسي السوري، وهي تواجه جملة من العقبات أبرزها المخاوف الغربية، وخاصة الأمريكية والأوروبية، النابعة من خلفية الجبهة وأعضائها المنتسبين سابقاً لتنظيم القاعدة، وذلك ما بينته تصريحاتهم التي تشدد على أنهم سيراقبون الوضع وسوف يقيمون خطوات الجبهة لتحديد كيفية التعامل معها.
تصريح لا يمنح الضوء الأخضر بشكل مباشر للجبهة للسيطرة على العملية السياسية في سوريا، الا انه يمنحها مساحات للعمل مع المراهنة على الدور التركي في إدارة هذه المرحلة في ظل توازنات دقيقة.