«جاءت في مجملها مثقلة لكاهل الأجراء وعموم الشعب» وخاصة «تأجيل الزيادات الواردة في اتفاقات والصادرة في الرائد الرسمي».
كما أن اتحاد الشغل لم يلمس من خلال قراءته الأولية لهذا المشروع «إرادة حقيقية في مقاومة الفساد ومحاربة التهريب والتصدي للتهرب الجبائي».
كما نددت أحزاب المعارضة – وعلى رأسها الجبهة الشعبية – بهذا المشروع معتبرة إياه مكرسا للفساد وللهيمنة الأجنبية وضد مصالح الشعب...
كما لاحظنا أن جلّ الخبراء الاقتصاديين الذين علّقوا على مشروع قانون المالية هذا قالوا عنه بأنه لا يتوفر على رؤية للمستقبل وأنه صيغ بصفة محاسبية (comptable) لا سياسية... والأكيد أننا سنستمع خلال الأيام القليلة القادمة لانتقادات جديدة نابعة من هيئات مهنية
مختلفة كعمادة المحامين وعمادة الأطباء.. كما أن جمهور الشعب «الفايسبوكي» لم ير في هذا المشروع سوى «قرارات مضحكة» على نمط الضريبة على المسابح الخاصة...
لا شك أن في هذه الانتقادات نسبا متفاوتة من الجدية وأيضا من الوجاهة... فاتحاد الشغل يرى أن الانفراد بقرار تأجيل زيادة تم الاتفاق كتابيا بشأنها عملية تضرب التشاركية في مقتل كما أن تنبيه بعض الخبراء على مواطن خلل واقعة أو محتملة في التصور العام
للتوازنات المالية مسألة تستوجب مزيد التفكير والإنضاج..
وبالطبع عدنا إلى الوضعية التي ألفناها بعد الثورة: الأحزاب الداعمة للحكومة تساند – ولو مع بعض التحفظات – مشروع الحكومة وأحزاب المعارضة وجلّ المنظمات والشخصيات الوازنة تعارضه وتبيّن تهافته...
ولكن الإشكال هنا هو أننا أمام أزمة عميقة وهيكلية للمالية العمومية وأنه لا حلّ جدي دون توافق ولو جزئي لأطراف الإنتاج ولأهم الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية وأصحاب الخبرة في المجال...
والغريب في الأمر أن هنالك شبه إجماع على تشخيص الوضع القائم:
• مديونية مشطّة ستبلغ في نهاية هذه السنة 63 % من الناتج المحلي الإجمالي.
• نمو ضعيف وهش: 1,5 % على الأقصى لهذه السنة وكذلك 1,5 % كمعدل للسنوات الست بعد الثورة.
• اقتصاد مواز أصبح يهدد، بفضل مجموعات التهريب أساسا، الاقتصاد الحقيقي للبلاد...
• جباية غير عادلة وجبت مراجعتها بصفة جذرية.
• تفشي الفساد بدرجة أصبح معها يهدد سلامة الاقتصاد الوطني وعافيته...
والسؤال الأساسي اليوم هو كيف السبيل للقيام بكل هذه الأعباء والمهام المتناقضة والمتنافرة في جل الأحيان في نفس الوقت وبالحد الأدنى من النجاعة والفاعلية؟!
لا شك أنه ينبغي أن تكون لنا كبلاد رؤية موحدة – في حدّها الأدنى – للخروج من هذه الأزمة التي أضحت هيكلية اليوم ولكن يبدو أننا لا نملك في تونس تقييما موحدا لنفس الاستعجال أو لنفس الحلول المجدية...
والبدء لا يمكن أن يكون إلا بالسؤال المحوري اليوم وهو كيف نحدّ من التفاقم الجنوني للمديونية العمومية؟ وهل بالإمكان أن نفعل ذلك دون ضغط على نفقات التصرف ودون فرض ضرائب إضافية؟
البديل الوحيد الذي اقترحه اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف وتشير إليه كذلك أحزاب المعارضة وبعض الشخصيات الوطنية الوازنة هو توسيع رقعة دافعي الضرائب إلى الفئات الناشطة في الاقتصاد الموازي ومحاربة الفساد والتهريب المتسبب في خسارة تقدر بنقطتي نمو
سنويا حسب بعض الدراسات وكذلك القيام بحملة جدية لاستخلاص مستحقات الدولة من الضرائب على الشركات والأشخاص الطبيعيين..
لا نعتقد أن تونسيا واحدا يجرؤ على معارضة هذا التمشي... ولكننا نتحدث هنا عن مسائل مختلفة ومتداخلة في نفس الوقت ونعلم – عندما نكون جديين – أن محاربتها ستستغرق سنوات طويلة لا سيما وأن جهاز الدولة الرقابي مخترق اليوم من لوبيات التهريب والفساد...
وعندما نتحدث عن إدماج الاقتصاد الموازي في الاقتصاد المنظم ينبغي أن نستحضر أن هنالك نشاطات أساسية لا يمكن إدماجها أصلا لأنها مخالفة جملة وتفصيلا للقانون ومستندة إلى شبكات منظمة داخليا وخارجيا كتهريب التبغ والبنزين والعديد من البضائع غير الخاضعة
لأية مقاييس صحية وبيئية...
صحيح أنه لو تمكّنت الأجهزة الديوانية والأمنية من القضاء بصفة شبه كلية على تهريب التبغ والبنزين على سبيل الحصر لتوفرت لخزينة الدولة أكثر من نصف مليار دينار من الضرائب بحكم اضطرار حرفاء القطاع الموازي الالتجاء إلى القطاع المنظم...
ولكن – لأن في الأمر لكن – يمكن أن نقدر أن عشرات الآلاف من التونسيين «يشتغلون» في هذين الصنفين من التهريب وأن هنالك ثمنا أمنيا وسياسيا قد يكون باهظا للبلاد ككل لا بد من دفعه إن نحن فتحنا حربا شاملة على تهريب هاتين البضاعتين...
وأيّا يكن من أمر فحرب كهذه ستدوم لسنين طويلة ولا نعلم اليوم حجم الأرباح الجبائية التي سنجنيها منها خلال سنة 2017 مثلا...
ما قلناه لا يعني تأجيل بداية الحرب... بل لقد تأخرنا كثيرا في إطلاقها... ولكن ينبغي أن نستعد لها لأن هذه الشبكات أضحت مافيات لها «حاضنة شعبية» تقتات منها وتدافع عنها وبعضها لديه بعض التأثير على الأجهزة الرقابية للدولة مما يستوجب تعافيا كليا لهذه
الأجهزة حتى تتمكن الدولة فعلا من استئصال هذه المافيات...
وما ينطبق على التبغ والبنزين ينطبق على جلّ السلع المهربة والتي تباع على قارعة الطريق في كل شوارع وأحياء الجمهورية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها...
بقي أن هنالك مئات الآلاف من التونسيين المشتغلين في القطاع غير المنظم والذين لا علاقة لهم بشبكات الإجرام هذه... ولهؤلاء لا بد من سياسة نشيطة تدمجهم تدريجيا ولكن بوتيرة قوية في القطاع المنظم... وندمج في هؤلاء مهنا عدة ومتفرقة كالمعينات المنزليات ومهن
البناء بأصنافها والبستنة ومهن الخياطة والحلاقة وبعض الصناعات التقليدية التي.....