بعد اثارة التتبعات القضائية ضد مؤثرين: من يحدد القيم الأخلاقية .. النقاش المجتمعي أم قوة الدولة؟

مع مرور الساعات تراجعت حدة النقاش العام في تونس بعد ان قسم التونسيين الى فئتين

بشأن حرص كل طرف على ترجيح قراءته للموقف من حدث يفترض ان يكون التطرق اليه اكثر هدوءا وعقلانية اذا اردنا ان نصل الى اجابات لا تساهم فقط في تفكيك الحدث بل تؤسس لممارسات فضلى تؤطر النقاش العام في اي ملف.

منذ صدور بلاغ وزارة العدل حول الى التعديل الجزئي للسياسة الجزائية للبلاد التونسية لتشمل مراقبة المنصات الاجتماعية وملاحقة كل من اتى فعلا او قولا يمس من القيم الاخلاقية او يخدش الحياء او يعتدي على الاخلاق الحميدة، وهي المصطلحات التي وظفت في نفس البلاغ، كما انها حضرت بقوة في نصوص التكييف القانوني في تهم وجهت لعدد من المؤثري في منصات التواصل الاجتماعي اساسا منصتي «تيك توك» و«انستغرام».

بلاغ عقبه تحرك مباشر من النيابة العمومية التي فتحت تحقيقات ضد عدد من المؤثرين في جرائم ذات طابع أخلاقي واخلاقي، ومنها التجاهر بالفاحشة او بفعل يخدش الحياء في علاقة بمحتوى نشر عبر حسابات هؤلاء المؤثرين ولقي رواجا في المنصات وبات «ترند» وفق المصطلح المستعمل لوصف المواضيع او الاشخاص الاكثر بحثا عنهم والمشاهدة على المنصات.

هنا وبعد نقاش مستفيض عاشت على وقعه الفضاءات العامة، الواقعية والافتراضية، بشأن البلاغ وما انجر عنه، تشكل في المشهد فريقان كل منهما ينتصر لقراءته التي تغذي الجدل ولا تسمح بنقاش عقلاني هادئ يتيح الوصول الى توافق مجتمعي في هذه النقطة.

للاسف هذا لم يتم في الايام الفارطة، اذ كنا امام اطروحتين احداهما تبارك إجراء الوزارة وتدخل القضاء لحماية الأخلاق والمجتمع من فئة تتهم بالبذاءة والتفاهة، يقابل ذلك طرح متمسك بالحرية على إطلاقها ويرى انه لا يمكن ان يساءل المؤثرون عما يقدمونه في المنصات باعتبار ان الاخيرة لم يحسم الجدل بشانها في علاقة بطبيعتها وهل انه ينظر اليها على انها فضاء خاص او فضاء عام.

نقاش عكس المزاج العام المهيمن في البلاد وهي النزوع الى المغالاة وإقصاء الرأي الآخر ومعاملة اصحابه على انهم وحوش واعداء يهددون المشترك المجتمعي او اخلاقه، وهذا ادى في المحصّلة الى ان يبتعد النقاش العام عن طرح مسألة قد تكون مهمة واساسية بشأن رسم الأطر المجتمعية التي تنظم علاقاتنا ببعضنا البعض وتسمح بحسم الصراعات والنزاعات بين مكونات المجتمع قدر الإمكان دون اللجوء الى الدولة وأجهزتها لحسمها.

اللجوء الى الدولة ومؤسساتها لحسم نزاع مجتمعي يتعلق بالذائقة والقيم الأخلاقية، يفتح الباب امامها لان توسع المجال القانوني عن طريق مضاعفة القوانين او احياء قوانين مهجورة تمكنها من مزيد السيطرة والسطوة على الفضاء العام وتقليص استقلالية الأفراد والمجتمع لصالح نظرة شمولية.

هذه النظرة لا تنتج عنها مضار للافراد والمجتمع فقط كتقليص الفروقات بينهم والتنوع والتعدد التي تولد حركية مجتمعية تؤدي الى التطور و يصل الامز ان الى التأثير سلبيا على الذات وعلى المجموعة كفاعلين اجتماعيين قادرين على افراز مجموعة قيم وقواعد تنظم العيش المشترك.

أسوأ ما ينتجه ذللك حجم الإشكاليات والمعضلات التي تثيرها أمام الفرد والمجموعات والدولة على حد سواء. نحن اليوم بهذه الخطوة التي اقدمت عليها وزارة العدل بتنا امام معضلات شتى، تتعلق بالنص القانوني الذي سيقع اللجوء اليه والى الفعل الذي سيقع تجريمه و استتباعات الامرين على المشهد القضائي في البلاد قبل السياسي والعام.

اي نص من النصوص القانونية التي سيقع اللجوء اليها لتجريم فعل تحت بند «الاعتداء على الاخلاق والقيم» سيؤدي الى تفعيل مبدإ قانوني يتعلق بسقوط الجرم بعد آجال محددة، وهذا يعنى ان كل التجاوزات التي حصلت نظريا في هذه الفترة الزمانية ستكون محل ملاحقة وهذا سيجعلنا امام رقم ضخم جدا للملاحقين قضائيا.

نحن هنا امام فرضية ملاحقة مئات الالاف من التونسيين ممن ارتكبوا وفق القراءة القانونية فعلا مجرما يستوجب السجن، وهذا غير ممكن لعدة اسباب اولها عدم قدرة المنظومة السجنية على استيعاب هذا العدد من الافراد، مما قد يؤدي الى انتهاج خيار مختلف وهو ملاحقة البعض فقط بهدف توجيه رسائل، هنا نكون امام معضلة اشد وطأة.

من سيحدد العينة التي ستلاحق او الافعال التي ستلاحق، وكيف سيقع الحسم او ضمان العدل والانصاف، خاصة واننا قد نواجه حالات تتشابك فيها المسائل وتتداخل، او نواجه وضعيات يكون فيها الفعل غير مجرم قانونيا ولكنه محل إنكار ورفض لدى جزء من المجتمع او العكس وقد نجد فعلا مجرما قانونيا لكنه يحظى بقبول مجتمعي، كيف سنعالج هذه المعضلة بأية أدوات؟

هذه المعضلات التي فرضت علينا اليوم والتي يجب ان تقدم لها اجابات من قبل السلطة ومن قبل افراد المجتمع ونخبه لانهاء حالة الانقسام الحاد حول هذه المسالة والوصول الى توافق مجتمعي واسع يسمح تحديد المبادئ الاخلاقية التي تنظم علاقاتنا، بعيدا عن استحضار القديم المشبع بنظرة طقوسية للحياة الاجتماعية والتي تسلب الفرد حريته وحقه في الاختلاف على اعتبار ان هذه الحرية او الحق قد تستوجب غضبا إلهيا ينجر عنه عقاب جماعي على فعل فردي، مما يمنح المجتمع من وجهة نظره حق التضييق على الفرد في فضائه الخاص الذي يتحمل البذاءة والتفاهة على عكس الفضاء العام الذي يجب أن تؤطر فيه وتضبط بقواعد العيش المشترك المتضمن لمبدإ تزامن تطور المجتمع وبناه السياسية والاقتصادية مع تطور منظومته القيمية والأخلاقية.

نحن اليوم مطالبون ببذل الجهد لاستعادة قدرتنا على النقاش والتفاوض للوصول الى توافق بموجبه ترسم قواعد العيش المشترك

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115