ورغم ذلك تغير مضمون الاعلان عنها ببيانات كشفت عن عنصر جديد في خطاب السلطة، من حيث الشكل وطريقة الاعلان عن ان «حرب التحرير» مستمرة وان البلاد ستعول على قدراتها الذاتية لمعالجة ما تواجهه. وقد تجسدت ذروة السردية السياسية الجديدة للسلطة يوم امس في فعاليات احياء عيد الجلاء في بنزرت.
وقد حرصت السلطة هذه السنة على ان توظف كل طاقتها لابراز الذكرى ودلالاتها السياسية في سياقها والسياق الراهن، فاستحضرت الفعاليات هذه المرة احتفالات أجهزة الدولة بمناسبة الذكري خلال نظامي الرئيسين الاسبقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي والتي كانت تتجاوز الاحتفاء البروتكولي لتكون من اللحظات السياسية المشبعة برمزيات دولة الاستقلال الحديثة، مع لحظة الاستقلال واعلان الجمهورية.
رمزيات اعادت السلطة التونسية خلال احتفالها بالذكرى الـ 61 استعارتها من الماضي لتشكيل مشهدية سياسية جديدة لرئيس الجمهورية في عهدته الثانية، لتحقيق استقرار سياسي واجتماعي يشجع على الاستثمار وخلق الثروة لتحقيق منجز اقتصادي يرسخ ّمشروعه السياسي في إعادة تشكيل نظام الحكم، دون اسقاط عنصر الخطاب الاساسي للمشروع وهو استكمال التحرير وبناء الدولة.
استحضار رمزيات ذكرى الجلاء، كانت الحدث الابرز في تناول السلطة لهذه الفعاليات، وذلك ما يبرز في خطتها الاتصالية التي تضمنت نقل فعاليات احياء الرئيس للذكرى مع خطاب يستحضر الرمزية بكثافة ليعلن ان معركة التحرير متواصلة، هذه المرة دون تحديد طبيعة هذه المعركة او الطرف الذي توجه ضده.
هذا التأطير السياسي لطبيعة المرحلة التي تقبل عليها البلاد في العهدة الثانية للرئيس قيس سعيد، لم يعلن عنه يوم امس فقط، بل كان حاضرا طوال الاسبوع الذي عقب الاعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية 2024، في بيانات السلطة او في بلاغاتها التي اعلنت من خلالها عن انشطة قامت بها الرئاسة وخاصة تلك المتعلقة بلقائه برئيس الحكومة او بعض وزرائه.
في البلاغات المشار اليها حمل خطاب السلطة ومعجمها الاصطلاحي المستخدم تغييرا لافتا بانخفاض حدة توتر الخطاب السياسي لرئاسة الجمهورية، وتركيز مضمونه على اجهزة السلطة فقط، دون ان يتغير من حيث مضمونه السياسي القائم على ضرورة «استكمال التحرر الوطني» مع ملامح عامة لمضمون هذا المشروع الذي يعد بدولة اجتماعية، و ابرز ما تقدمه السلطة اليوم انها مستمرة في خوض المعركة لكن دون تحديد الكيفية.
و يبدو ان السلطة اليوم، مع بداية العهدة الجديدة، ولو بشكل غير مباشر تريد توجيه رسائل للداخل تعيد عرض مشروعها السياسي على الفاعلين في المشهد بقواعد جديدة تنهي ما سوق له من قبل انصارها على انه اخطاء في التقدير، وقد اعلنت السلطة اليوم عن ما يمكن اعتباره مشروعها المركزي، المعبر عنه باستحضار شعار «البناء والتشيد» الذي رفعته الدولة في الستينات من خلال تحالف ما يعرف بـ«الجبهة القومية» المتكونة اساسا من الحزب الحر الدستوري ومن المنظمات الوطنية كذلك النخبة الادارية.
استحضار شعار الدولة ورمزية الجلاء كخطوة نحو التحرر، ليس فقط ما ترغب الدولة في استحضاره ، وفق ما كشفت عنه تصريحات مقربين من السلطة، بل بل انها ترغب في استنساخ اللحظات الاولى للاستقلال وبناء الدولة لترسيخ فكرة اهمية «وحدة وطنية» خلف المشروع، حتى وان كانت السلطة الراهنه لا تخفي انتقادها لتجارب الوحدة السابقة التي اعتبرت انها تقاطع للوبيات ومراكز النفوذ للدفاع عن المصالح المشتركة.
قد يساعد نقد القديم لمحاولة تشكيل جبهة وطنية على معرفة طبيعة ما قد تستسيغ السلطة استنساخه من تجربة بناء دولة الاستقلال في الستينيات، وهو بالاساس ان تكون الجبهة منسجمة مع الشعارات السياسية للسطة وان تتبنى مشروعها، لذلك حرصت على ان توجه رسالة بان مسارها السياسي لا يستهدف اي طرف داخلي، وقد يكون ذلك تفاعلا ضمنيا مع ما سوق له منذ بداية الاسبوع الفارط بحاجة البلاد الى تهدئة سياسية وتحقيق النمو الاقتصادي وان تونس تتسع للجميع.
هنا قد تكون السلطة مجسدة في رئيس الجمهورية قيس سعيد تشير ضمنيا الى انها ليست ضد الدعوة خاصة اذا كانت التهدئة ستصاغ وفق توزانات الانتخابات الرئاسية