ويبدو أن العديد من التونسيين لا يريدون نقاشا وطنيا جديا حول هذه القضايا إما لأنه ليس لديهم ما يدلون به (وهذا حال بعض السياسيين) وإما لأن هذا النقاش سيضطرهم للخروج مما يسمى بمنطقة الرفاهة (la zone de confort) ونقصد هنا بالرفاهة ما تعوّد عليه الذهن إلى أن أصبح يجري عنده مجرى السليقة...
لأول مرة في تاريخنا الحديث نجد موضوع الجباية في محور الاهتمام العام بدءا لأننا لم نعد في تنظيم سياسي هرمي تقرر فيه الدولة ما تريد داخل مكاتب مغلقة وثانيا وأساسا لأن الأزمة الخانقة للمالية العمومية جعلتنا وستجعلنا نقف أمام الخور الكبير الذي يسود منظومتنا وثقافتنا الجبائيتين على امتداد عقود إن لم نقل قرونا...
نبدأ بالثقافة، أو التمثل الاجتماعي بصورة أدق، لأن الثقافة بهذا المعنى هي أصل كل سلوك اجتماعي...
«المال العام» المتأتى من دفع الضرائب أساسا ليس مفهوما أصيلا في ثقافة التونسي بمعنى أنه لا يحظى بما يحظى به «المال الخاص» من خصال إيجابية ومن تصرف حذر ومن تلك العواطف الجيّاشة عند فقدانه أو وجوده... «المال العام» عندنا كائن سحري، ما فوق مجتمعي.. فهو مباح لنا دون أن يكون جزءا منّا...
ولقد ترسخ فينا هذا التصور جيلا بعد آخر كما ساهمت فيه الدولة الناهبة الجابية زمن البايات وحتى قبلهم.. الدولة التي «تفتك» أموال الناس حتى يعيش أهل القصر في ترف...
ولهذا نرى إلى اليوم أننا لا نعتبر عدم دفع الضريبة المستحقة عملا أخلاقيا سيئا... بل هو حيلة وفطنة ما دام المال مالي ولا أحد له حق أصلي فيه...
وهذه العقلية مازالت متفشية اليوم في كل فئات المجتمع ولم «ينج» منها إلا الأجراء والمؤسسات والنشاطات الاقتصادية المنظمة لا لتفوق أخلاقي بل لضرورة تنظيم العمل العصري وبمقتضى الاقتطاع المباشر من الأجور...
وهذا يعني أن عملا في العمق ينتظرنا جميعا لكي نرسخ عند كل التونسيين أن الواجب الضريبي هو على رأس قيم المواطنة الإيجابية.. وأن في كل دينار نحصل عليه بواسطة شريفة من عمل أو ميراث أو غيره إنما فيه جزء معلوم للمجموعة الوطنية وأن تحويل هذا الجزء لفائدتنا الشخصية هو عمل مذموم أخلاقيا ومحاسب عليه قانونيا...
كما أن الوقت قد حان اليوم لمراجعة المبادئ الأخلاقية العامة التي انبنى عليها نظامنا الجبائي حتى يصير أكثر عدلا وتضامنا مما هو عليه الآن...
تفرض الضريبة على صنفين من الدخل: الدخل المتأتى من الجهد والابتكار (أي من قوة العمل البدني أو الفكري ومن إدارة رأس المال) والدخل المتأتى من ريع ما والمفروض هنا هو أن تكون الأولوية للجهد والابتكار على حساب الريع وأن تتقارب نسب الضرائب الموظفة على قوة العمل وعلى رأس المال وهذا ما نجد عكسه تماما في تونس بفعل سهولة توظيف الضرائب على قوة العمل وبإفلات هام للدخل الريعي من منظومتنا الجبائية كذلك...
فالتخفيض من الضرائب الموظفة على الأجر لا يستفيد منه فقط الأجير بل المؤسسة المؤجرة بصفة أساسية إذ هي المدعوة لدفع ما هو مستوجب على قوة العمل لخزينة الدولة... وهكذا يكون تخفيض الضرائب على العمل مدخلا جديا وهاما يشجع المؤسسة الاقتصادية على التشغيل وبالتالي على مزيد خلق القيمة المضافة... ولكن هذا لن يصبح ممكنا إلا متى تجاوزنا هذه الأزمة الخانقة للمالية العمومية ومتى وسعنا من قاعدة الضريبة وأقمناها على حد أدنى من العدل ومن التضامن أيضا...
يمكننا أن نقول دون مبالغة بأن الإجراءات المعقدة جدا لمنظومتنا الضريبية هي التي تدفع جزءا من مواطنينا من ضعاف الحال إلى الاقتصاد الموازي... فهنالك مئات الآلاف من التونسيين لا علاقة لهم بالتهريب بصفة عامة ولكنهم اليوم خارج الاقتصاد المنظم بالكامل ونحن نتحدث هنا عن أصناف من الحرفيين في الخياطة والحلاقة والبستنة والخدمات الصحية وغيرها ممن يخشون من تعقيد المنظومة الضريبية ومن الإجراءات التي تستوجب لفهمها دكتوراه في الجباية ومن الأموال التي يجدون أنفسهم مطالبين بها كل شهر أحيانا دون أن يكون لهم بالضرورة دخل قار بينما لو يسرت إدارة الجباية إجراءاتها لكل هذه الأصناف ولو جعلت لهم نظاما تقديريا بسيطا ومحفزا لأدرجنا داخل الاقتصاد المنظم مئات الآلاف من المواطنات والمواطنين في ظرف سنوات قليلة دون كبير عناء...
مسألة أخرى تمنع مئات الآلاف من المواطنين من ولوج القطاع المنظم هي.....