بعد صدور أحكام بسنة سجن في حق إعلاميين: كيف ستمارس المهنة في ظل المرسوم 54؟

خلال الساعات الفارطة صدر عن المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة

حكم ابتدائي بسجن الاعلاميين مراد الزغيدي وبرهان بسيس باحكام مجملها سنة سجن لكل منها بعد ان كيفت تدوينات لهما نشرت على منصات التواصل الاجتماعي او في وسائل اعلام على انها تهديد للامن العام وإضرار بالغير.

حكم حتى وان كان ابتدائيا يمكن استئنافه او الطعن فيه ونقضه، الا انه ولاسباب شتى كان كافيا لاثارة سؤال جوهري وجودي لدى العاملين في الصحافة والاعلام بدرجة اولى ولدى النشطاء والفاعلين السياسين والحقوقيين والنقابين والمواطنين بدرجة ثانية، حول الهوامش والفضاءات التي لاتزال قائمة وممكنة لممارسة مهنة الصحافة، والضوابط الاخلاقية والقانونية التي يحتكم اليها الصحفيون والاعلامون لممارسة مهنتهم، فالمرسوم عدد 115 والمرسوم عدد116 واخلاقيات المهنة الصحفية ومواثيق التحرير الخاصة بوسائل الاعلام وغيرها من النصوص المنظمة لممارسة المهنة علقت لصالح المرسوم عدد 54.

ان محاكمة مراد الزغيدي وبرهان بسيس وسنية الدهماني اليوم على خلفية تدوينات او تصريحات لم تقم على النصوص المنظمة للمهنة واخلاقياتها بل تمت على معنى الفصل 24 من المرسوم عدد 54، الذي بات اليوم النص المنظم للمهنة، وهو نص يغلق جل المساحات امام ممارسة احد اركان المهنة: التعليق والراي ويغير جملة من القواعد التي من بينها ان الانتاج الصحفي بات يخضع لسؤال قانوني عن «المعنى الخفي» منه، وهذا يعنى ان القواعد تغيرت كليا وباتت محكومة بما قد تعتقده الجهة التحكيمية ولا لقواعد واضحة ومعلنة تحدد الممكن وغير المسموح في مزاولة الصحافة كمهنة.

هنا قد لا يكون الجمهور على دراية بان الصحافة مهنة من الشاق جدا ممارستها، كتابة او قولا او صورة، فهي مهنة محكومة بما يمكن اعتباره «اتفاق اداء» بين الصحفيين والجمهور صارم ومضبوط يخضع فيه الصحفي الى ضوابط اخلاقية وقانونية ومهنية تحمي الجمهور المتلقي من اي انتهاك لحقه في الحصول على المعلومات والاخبار الصحيحة والتفسير والشرح الموضوعي دون اية عملية تضليل او توجيه أو تلاعب به او بالمعلومات التي تقدم له.

الصحافة مهنة كباقي المهن تلتقي معها في قواسم مشتركة، اولاها ان لها قواعد اخلاقية تستوجب الالتزام بها لا في نقل الخبر فقط والذي يعتبر مقدسا في المهنة، بل في التعليق والتحليل والتفسير التي وان كانت حرة الا انها مضبوطة بقواعد مهنية واخلاقية، يطول شرحها اسباب وضعها وتفكيك ادائها ونتائجها، وهي قواعد وضوابط مهنية واخلاقية هدفها الاول والاخير حماية حق الجمهور في الحصول على المعلومات والاخبار وتوفير اكبر قدر منها لاثراء النقاش العام، اضافة الى محاولة فتح نقاشات عامة عبر تفكيك وتفسير بعض الاحداث والمعطيات بهدف دفع الجمهور الى صياغة موقف مما يحدث.

هذه هي الضوابط المهنية لممارسة الصحافة وهي ان تخبر الجمهور وان تشرح الخبر وتفككه وتعلق عليه ومدى تاثيره المباشر على نمط حياة الناس وعلى مستقلبهم وحاضرهم، وهذا يتم في اطار اخلاقية مهنية وقانونية تحمي الجمهور والصحفي من اية انحرافات قد تحدث ودون اخطاء فالصحافة كباقي المهن يمارسها بشر.

كل هذا تغيير اليوم، فلم يعد يكفي الالتزام بقواعد المهنة واخلاقياتها لمارسة المهنة، اذ ان الالتزام بها لم يحل دون ان يلاحق صحفيون واعلاميون قضائيا وان تتم مساءلتهم لا عن خطأ ارتكب بل عن المعنى والمقصد عما صدر عنهم، وهذا يعنى ان الصحافة اليوم باتت محكومة بالتاويل وهنا تصبح الضوابط هلامية غير محددة وغير دقيقة، وهو ما يعني ان الصحفيين والاعلامين اليوم اذا ارادوا ممارسة مهنتهم عليهم ان يرفقوا عملهم بشرح للمعنى والقصد، وهذا قد لا يكون كفيا.

اليوم تغلق المساحات وتضيق على الصحفيين خاصة العاملين في الحقل السياسي والوطني وتعوّم الحدود الفاصلة بين الممكن وغير الممكن وتلغى القواعد القديمة لتحل محلها اخرى جديدة غير محددة وغير واضحة، مما يعنى ان ممارسة المهنة الصحفية كمهنة قد انتفت فيها ابرز شروطها الموضوعية وهي وضوح الاطار الذي تمارس فيه هذه المهنة

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115