لقد عشنا طويلا في تونس على هامش كل قرار اجتماعي واقتصادي تأخذه الدولة في أعلى مستوياتها وهذا لا ينطبق فقط على دولة الاستقلال بل على تاريخنا الوطني كله مما ولّد لدينا نظرة شبه سحرية للمال العام أو ما نسميه اليوم بالمالية العمومية...
فأضحينا نعتقد وكأن أموالنا الخاصة والمال العام هما خطّان متوازيان لا يلتقيان.. ولكن ها هما التقيا بعد الثورة... وها نحن نستعد لدفع فاتورة باهظة لهذا اللقاء من الصنف الثالث (rencontre du troisième type)
التشخيص بسيط ولا يستدعي معرفة خاصة بعلوم الاقتصاد. الدولة في تونس، كما في سائر بلدان العالم، هي الفاعل الاقتصادي والاجتماعي الأساسي ولديها في ذلك دوران محوريان: جمع جزء من الثروة الوطنية عبر الضرائب بصنفيها المباشر وغير المباشر والخيرات الطبيعية ثم إعادة توزيعها على المجتمع في شكل أجور للموظفين ومنظومات صحية واجتماعية تضامنية كـــ(التقاعد وإعانة العائلات المعوزة) وتعديل لأسعار بعض المواد الأساسية والخدمات العمومية من صحة وتعليم ونقل ورياضة... وإقرار الأمن وإنفاذ القانون والاستثمار في البنية التحتية الخ... والأصل أن يكون هنالك توازن أدنى بين الموارد الذاتية للدولة وبين كل مجالات إنفاقها وتلجأ كل دول العالم إلى التداين الداخلي أو الخارجي لتغطية الفرق بين المداخيل والمصاريف شريطة أن يكون هذا اللجوء محدودا وألا يتجاوز نسبة معقولة من الناتج الداخلي الخام أما إذا ما اتسع الفارق واستمر ذلك لسنوات متعاقبة فستصل كل دولة، أيا كانت إمكانياتها الاقتصادية، إلى حالة تفرض عليها سياسة تقشفية بحسب حجم هذا العجز وإن لم تفعل الدولة هذا من تلقاء نفسها فسيجبرها على ذلك دائنوها..
وبالطبع شتان بين دول صناعية كبرى تتحكم في المبادلات التجارية والمالية العالمية وبني دولة كتونس لا تقدر – وإن أرادت – على فرض شروطها على دائنيها...
هذه هي الحالة التي وصلت إليها البلاد بعد ست سنوات من السياسات العمومية المفاقمة للجوء إلى التداين دون أن تكون قادرة لـــ(أسباب تتجاوز إرادتها أحيانا) على خلق الثروة والقيمة المضافة وبالتالي النمو العائد عليها بموارد ذاتية جديدة...
جزء هام من مواطنينا يريد تحميل المسؤوليات لهذا الفشل المدوي الذي أدى بالبلاد إلى حافة الإفلاس لهذه الحكومة أو تلك أو لهذا الحزب أو ذاك... هذا ضروري ولا شك ولكنه لا يحلّ المشكلة.. البعض الآخر يرى أن الفساد هو الذي سبب هذا الانخرام... قد يكون ذلك صحيحا ولكنه لا يفسّر كل العجز خاصة وأن الأرقام واضحة أمامنا: تفاقم الإنفاق العمومي في كتلة الأجور (انظر مقالنا يوم الأحد) والذي رفعها في ست سنوات فقط من 6,8 مليار دينار إلى 13,4 مليار دينار وكذلك في دعم المواد الأساسية خاصة في السنوات الفارطة عندما كان سعر برميل البترول مرتفعا للغاية وفي عجز الصناديق الاجتماعية وكذلك في العجز الإجمالي للمنشآت العمومية والذي بلغ لوحده 4 مليار دينار.. كل ذلك في ظل نمو هش (معدل 1,5%على امتداد السنوات الست) وتراجع كبير لمداخيلنا من الفسفاط والطاقة... ودون أن نبدأ في إقحام جدي للاقتصاد الموازي في الاقتصاد المنظم...
في المحصلة لم يعد بإمكان الدولة التونسية، وأيّا كانت السياسة الاجتماعية المطبقة، أن تحافظ على نمط إنفاقها الحالي لا في مجال كتلة الأجور في الوظيفة العمومية ولا في كل المجالات الأخرى...
فلو نضع أمام أعيننا الموازنة الأولية التي وضعتها حكومة الحبيب الصيد لسنة 2017 لرأينا بأن البلاد في حاجة إلى اقتصاد إجمالي لثمانية مليار دينار (ما بين اقتصاد في الإنفاق وتوفير لموارد إضافية) وذلك حتى نصل إلى العتبة المعقولة (85 % كموارد ذاتية من جملة النفقات العمومية) بينما نجد أن نسبة التغطية في هذه الميزانية الافتراضية هي في حدود 62 % فقط (الموارد الذاتية: 21535 مليون دينار ومجموع النفقات هو 34705 مليون دينار).
الواضح أننا لن نتمكن من التغلب على هذا العجز الضخم لا في.....