باتت المحدد الأبرز للمشهد السياسي التونسي الذي عاش خلال الاشهر القليلة الفارطة على وقع ركود شبه كلي ما عدا تحركات السلطة وهيمنتها على الفضاء العام.
منذ ان اعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن اعتزامها اجراء الانتخابات الرئاسية وفق مقتضيات عهدة 2019 اي في الاشهر الثلاثة الاخيرة من عهدة الرئيس قيس سعيد التي تنتهى في اكتوبر 2024 وتاكيد ذلك بتصريح الرئيس بأن الانتخابات ستقام في آجالها القانونية والدستورية في اشارة الى التزامه بالآجال الدستورية. وبالتالي فان الحدث المهيمن على الساحة السياسية هو هذه الانتخابات هيمنة برزت على عدة مستويات. قصر قرطاج حتى وان كان يرفض ان تعتبر تحركات الرئيس الاخيرة وخطابه السياسي حملة انتخابية الا ان الانصار والخصوم يرون عكس ذلك.
الاستحقاق الرئاسي هو الحدث السياسي الابرز في البلاد في سنتها الراهنة، لذلك لا يمكن التغافل عن تتبع خطوات السلطة او المعارضة على حد سواء، فكل منهما يراهن على الانتخابات للفوز، اما بعهدة رئاسية ثانية للرئيس لاستكمال مسار الحكم، او فوز أحد المنافسين لوضع حد لهذا المسار، لذلك فان الانتخابات الرئاسية لحظة سياسية هامة ستحدد مستقبل البلاد حسب هوية الفائز.
لحظة يدرك الرئيس وانصاره اهميتها وذلك ما يتجلى في خطابه السياسي الناقد للمعارضة التي يعتبر أنها تركض خلف الحكم ولا هم لها الا الانتخابات الرئاسية دون غيرها من الاستحقاقات الانتخابية التي مرت بها البلاد التشريعية والمحلية. وقد وظف الرئيس هذا العنصر لتوجيه اتهامات جديدة للمعارضة لابراز تباينها مع الشعب وعدم تمثيلها له وفق تصوره.
تصور مهما كانت درجة صحته او خطئه لا يغير من حقيقة الامور، وهي ان الرئيس كمن ينتابه شعور لا يستطيع تفسيره لكنه يحذرّه من «مفاجأة» قد تحدث وقد لا تحدث اطلاقا، لكن الهواجس تكشف في النهاية عن تقييم يقر بوجود تحديات كبرى في الانتخابات القادمة.
الاستحقاق الرئاسي المنتظر سيكون في شهر سبتمبر او اكتوبر القادمين، في ظل مناخ اجتماعي واقتصادي يتوقع ان يكون صعبا جدا وستحمّل السلطة التنفيذية المسؤولية عنه مما يعنى انها قد تواجه تآكلا حادا في «شعبية» الرئيس خلال الاشهر القادمة اذا تدهورت الاوضاع وذلك ما تراهن عليه المعارضة لتحقيق «نصرها» السياسي على الرئيس ومساره الذي انطلق في 25 جويلية 2021، هذا بدوره غير كاف فكل المؤشرات تبين ان تقهقر شعبية الرئيس وانخفاض نسبة تاييده ليست بالوتيرة التي قد تشكل تهديدا انتخابيا له ـ في الوقت الحالي على الاقل ـ لعدم وجود عامل تحفيز يتمثل في وجود قوة سياسية او مرشح له القدرة على البروز كمنافس قوي للرئيس في الاستحقاق القادم.
اما الرهان الثاني الذي يبدو ان المعارضة تعمل عليه فيتجلى في بعض الخطوات التي قطعها هذا الطرف او ذاك في اتجاه صياغة تصور سياسي ينتهي بمرشح للانتخابات الرئاسية تتوفر له فرص النجاح.
رهان يبرز في خطاب احزاب كـ «حزب العمل والانجاز» الذي عقد في نهاية الاسبوع الفارط مؤتمره الاول وكشف فيه عن تصوره للاستحقاق الرئاسي أمام ضيوفه من قادة بعض الاحزاب والتيارات السياسية المعارضة لمسار الرئيس، التي لا ترفض مبدأ العمل المشترك بينها او التحالف بهدف وضع حد لمسار 25.
هذا ما كشفه عبد اللطيف المكي، القيادي في الحزب الذي يعرّف نفسه بأنه اجتماعي محافظ، حينما أشار الى أنّ الانتخابات الرئاسية المقبلة «يجب أن تكون فرصة لإنهاء الصراع السياسي في تونس» وان عدم تفكير المعارضة بمختلف اطيافها وتياراتها في خوض الانتخابات الرئاسية خطأ استراتيجي.
و هنا يكمن التحدي الجدي امام هذه الاحزاب وهو تحديد كيفية خوض الانتخابات الرئاسية، هل سيكون ذلك بمرشح عن كل جهة منها او بمرشح وحيد عن كل عائلة سياسية كبرى، فوصول المعارضة الى تحديد هذا الجزء من تصورها السياسي هو عبارة عن التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان، اذ تعذّر خلال السنوات الفارطة على المعارضة ان تتوحد على مرشح وحيد يمثلها او على بضعة مرشحين يمثلون عائلات سياسية مما ادى الى تشتت الاصوات.
معضلة تريد المعارضة التونسية حلها، لكن يبدو ان رهان كل منها على تحقيق اكبر قدر من الفائدة للحزب او جعل حزبها القاطرة التي تجر خلفها بقية الاحزاب قد يحول دون تحقيق تقدم فعلي، وهو ما قد يتضح في الايام القادمة اذا فشلت محاولات تقريب وجهات النظر بين مكونات المعارضة.
محاولات رأب الصدع وايجاد ارضية سياسية مشتركة ليست فقط ما بادرت اليه المعارضة بل انها تسعى الى اعادة احياء الشارع عبر تنظيم وقفات اجتجاجية اسبوعية هدفها كسر الصمت الذي هيمن على الفضاء العام ومواجهة السلطة وخطابها السياسي في الشارع امام التونسيين بهدف كسر الصورة التي تسعى السلطة الى ترسيخها