وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء. لاشك ان نسبة النمو السلبية بـ%9.2 - سنة 2020 قد عكرت الامور كثيرا وحتى لو حذفنا هذه السنة سنكون في معدل دون %2 من 2010 الى موفى 2023، ورغم أننا إزاء نمو إيجابي، حسابيا، إلا انه لا يعالج البطالة ولا يحد من الفقر هذا إن لم يفاقمه مما لا يحقق النهضة الاقتصادية التي حلمنا بها جميعا في الاسابيع الاولى للثورة التونسية .
والسؤال الذي ينبغي طرحه اليوم بكل جدية لماذا ثرنا على نظام كان يحقق خلال عشريته الاخيرة %4 وأكثر من %5 خلال عشريته الاولى لنحقق بعده معدلا بالكاد يتجاوز %1 اذا استثنينا سنة الكوفيد؟
هنالك خطيئة اصلية ما ينبغي ان نقف عندها وان نفهم شروط انتاجها حتى نتمكن من بداية السير في الطريق السالكة.
الفكرة التي نريد طرحها للنقاش هي ما مدى تأثير نظرتنا للاقتصاد التونسي خلال العقود الخمسة الأولى لدولة الاستقلال على شبه العطالة التي شاهدناها منذ 2011 الى حدّ اليوم؟
لقد ساهمت جلّ مكونات المشهد السياسي والحقوقي والنقابي والإعلامي في تكوين صورة سليبة للغاية عن ما نسميه بـ«منوال التنمية» لدولة الاستقلال وخاصة خلال فترة حكم الرئيس الراحل بن علي قوامها انه اقتصاد فساد وإفساد تتحكم فيه الجهات القريبة من السلطة عائليا او زبونيا وقد تمت خلاله خوصصة اهم المؤسسات العمومية لفائدة هذه اللوبيات وشركائها في الخارج ، كما أن الشراكة مع الاتحاد الاوروبي دمّرت النسيج الصناعي التونسي وفاقمت البطالة والحيف الجهوي والاجتماعي ثم إن اهم القطاعات الاقتصادية تحكمها «كارتالات» تستفيد من قوانين وممارسات تكرس الريع والزبونية وتغلق السوق أمام المنافسة الحقيقية وتجبر اقتصادنا على انتاج قيمة مضافة متدنية وتجعله عاجزا على استيعاب أصحاب الشهادات العليا وفقا لذلك .. أما ما تمكنا رغم ذلك من انتاجه فجلّه منهوب ومهرب الى الخارج ..
لا أعتقد أن هذه الصورة للوعي الجماعي مبالغ فيها حتى وإن سعت بعض الاصوات المعزولة إلى ترجيح تقييم عقلاني وموضوعي للمحصلة الاقتصادية التونسية لأن ذلك وحده يفسر حرص النخب الحاكمة على «القطع» مع هذا «المنوال» (على الاقل على مستوى الخطاب) والبدء من إصلاح منظومة الحكم سياسيا ومؤسساتيا باعتبارها المسؤولة الاولى عن هذا الخراب العام .. وهذا ما يفسره ايضا النقد شبه الإجماعي لمنظومة الانتقال الديمقراطي او العشرية السوداء كما يحلو لجلّهم تسميتها باعتبارها مواصلة متسترة للمنظومة القديمة وأنها قد زادت فسادا على الفساد، لذا وجب الاصلاح –مرة أخرى– انطلاقا من هندسة الحكم وتغيير الدستور والترسانة القانونية كمدخل وحيد وشرط أساسي لإصلاح الاقتصاد.
يبدو لنا اننا أصبحنا اليوم نملك ما يكفي من المسافة الزمنية والذهنية كي ندرك حجم الضرر الحاصل للاقتصاد والبلاد والذي نجم عن هذا المخيال المهيمن لدى جل نخب البلاد اذا ما استثنينا، بالطبع، النخب الاقتصادية علما وممارسة.
ما زاد الطين بلة كثرة الهواة الذين تداولوا على أهم المسؤوليات في الدولة منذ سنة 2011 على حدّ تعبير المؤرخ فتحي ليسير في كتابه «دولة الهواة» والذي خصصه لحكومة «الترويكا» ويمكننا تعميم استنتاجاته على جلّ الحكومات التي تلت «الترويكا».
لا يشك احد في وجود أعطاب عدة في المنظومات الاقتصادية للبلاد قبل الثورة لكن الخطيئة الاصلية تتمثل، فيما نرى، في تحويل مقاومة الفساد الضرورية الى ايديولوجيا مغلقة وكلية لا ترى الواقع المعقد لكامل منظوماتنا الانتاجية وسياساتنا الاقتصادية إلا من هذه الزاوية فلم تفهم سر النجاحات التي حققتها تونس من 1960 الى 2011 وكيفية تمكنها من تحقيق معدل نمو سنوي بحوالي %5، والأخطر من ذلك انها لم تدرك ان بعض الاخفاقات (كارتفاع نسب البطالة لدى اصحاب الشهادات العليا) انما هي نتيجة اشكالية لنجاحات سابقة وهي في هذه الحالة التفاوت بين نسق تعميم التعليم وارتفاع الاقتصاد عامة في سلم القيم .
صحيح ان الفساد وسوء الحوكمة وعدم الإقدام على الإصلاحات الضرورية في إبانها وضعف الدور الاستراتيجي للدولة ..كل هذه العوامل من اعطاب الاقتصاد التونسي ولكنها ليست كل الاقتصاد والا لما حققت البلاد هذا النمو على امتداد خمسة عقود كاملة.
لقد كانت بلادنا تحتاج مع الثورة الى الاصلاح العميق والشامل لا الى القطع. والفرق بين الاثنين واضح، فالإصلاح العميق والشامل يحتاج الى معرفة دقيقة بالحقائق المتعددة والمعقدة للاقتصاد ومثلها للمؤسسة الاقتصادية الخاصة بمختلف احجامها وأصنافها.. لقد غاب هذا الإدراك وهذا التنسيب عند تقييم مختلف السياسات العمومية الاقتصادية لدولة الاستقلال لدى جل الفاعلين السياسيين والنقابيين والحقوقيين والإعلاميين وتمت الاستعاضة عن ذلك بشعارات عامة جلّها مستلهم من شعبوية ايديولوجيا مقاومة الفساد وإيديولوجيا القطع مع الماضي والحال ان الخطر الاكبر على اقتصاد البلاد هو «القطع» أو الجمود إذ أننا أمام حركية يومية ينبغي دعمها وتطويرها وإصلاحها لا تحطيمها بشيطنة متواصلة عبثية.
ما غاب عن اقتصاد البلاد خلال كل سنوات الثورة ليس الاصلاحات –وهي ضرورية – بل المرافقة الذكية من السلطة السياسية وخضوعها في احيان كثيرة للابتزاز وجنوحها في احيان اخرى الى الانغلاق على ذاتها والحال ان البلاد كانت في حاجة لا فقط الى دولة محترفين بل اضافة الى ذلك الى دولة لها القدرة على التخطيط والاستشراف مع قدرة على المرافقة اليومية للنسيج الاقتصادي بكل تعقيداته.
لن نخلق العجلة من جديد: الاقتصاد يحتاج الى الاستثمار والرفع في انتاجية العوامل (رأس المال والعمل والتجديد التكنولوجي والخدمات اللوجستية) والى غزو اسواق جديدة والارتفاع المستمر في سلم القيم وكل هذا يحتاج الى دولة مُخطّطة.. وخطيئتنا الأصلية اننا تجاهلنا كل هذه المعطيات الاساسية فخسرت بلادنا خلال هذه السنين الاخيرة اسواقا ومواطن شغل ورفاهية نسبية لكل بناتها وأبنائها.
(يتبع)
II- في شروط الدولة المُخطّطة