خلال العشرية الماضية، في إطار حملة "الحرب على الفساد"، وأن يعمّم توجيه أصابع الاتهام حتى يسود الانطباع بأنّ 'المجتمع المدني' كان هو الآخر، متسبّبا في 'الخراب'. فالخطاب الذي ينسف ما قبله و'يشيطن' ويصنع الأعداء لا يمكن أن يكون موضوعيا في تقييمه للأحداث والوقائع والتجارب. أمّا القارئ الحصيف فإنّه يدرك أنّه من غير المنصف طمس الدور الإيجابي الذي نهض به المجتمع المدني ذلك أنّ المساءلة تقوم على الاعتراف بالممارسات الفضلى وانتقاد مظاهر الانحراف والتحيّز والتلاعب وغيرها من الممارسات السلبية. ولعلّ السؤال الذي يتعيّن طرحه اليوم، إلى أي مدى كان الفاعلون داخل مختلف مكونات المجتمع المدني حريصين على تطبيق التعديل الذاتي باعتباره آلية تحصّنهم من الانزياح عن أخلاقيات العمل وتضمن لهم أداء نزيها؟
يُمكنّنا استرجاع المسار التاريخي من الوقوف عند تجارب متنوّعة تثبت تمسّك مجموعة من الفاعلين بممارسة التعديل الذاتي نذكر على سبيل المثال الجهد الذي بذلته الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري والنقابة الوطنية للصحفيين وغيرها من المؤسسات والمنظمات.ولكنّ هذا الجهد بقي محدودا وأحيانا شكليّا وهو أمر راجع إلى المقاومة الداخلية إذ لا يُتقبّل كلّ جديد مبتكر دائما بعين الرضا لاسيما إذا كان قائما في جوهره على كشف الممارسات التي تتعارض مع القيم أو العقد الداخلي أو الأخلاق المهنية...وهي رقابة يُعتقد أنّها تلحق الضرر ببعض الامتيازات والمصالح. وينجم عن ذلك تضامن أبناء القطاع من أجل تعطيل مسار التعديل الذاتي. يُضاف إلى ذلك عدم التشبيك في الغالب، بين مختلف الفاعلين المحليين ونظرائهم في الخارج من أجل توحيد المعايير والأسس التي يقوم عليها التعديل الذاتي.
ويعاد اليوم، طرح قضية التعديل الذاتي بعد التحالف الذي انخرطت فيه عدّة دول من أجل الإبادة الجماعية للفلسطينيين إذ كيف يمكن لمنظمات وجمعيات نسوية وثقافية واجتماعية وأحزاب واتحادات ورابطات.. أن تستمر في عقد الندوات وورشات التدريب مستفيدة من التمويل الصادر عن الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وفرنسا...وأن تزعم في الوقت ذاته أنّها تناصر القضية الفلسطينية؟
لقد ألقت الحرب على غزّة بظلالها على المجتمع المدني فكان الفاعلون/ات متردّدين في اتّخاذ ردود الفعل والتفكير في أشكال المناصرة .مال أغلبهم إلى الصمت حتى لا يتورطوا فيحرموا من التمويل و اكتفى أخرون بالتموقع في وضع "المشاهد " الذي ينتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب حتى يستعيد نشاطه. وفي المقابل ارتأت الرابطة التونسية لحقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشغل وبعض المنظمات والجمعيات مناقشة الأمر واتخاذ القرار الملائم في ضوء التعديل الذاتي للعمل. فكانت بيانات المقاطعة وفكّ التعاقدات وغيرها من الإجراءات حجّة على أنّ التعديل الذاتي وسيلة للمحافظة على رصيد الثقة وعلامة على الالتزام بالقضايا العادلة دون احتساب "للغنائم "المفرّط فيها.
تشير هذه المبادرات على قلّتها، وعدم اهتمام الدارسين بتحليلها، إلى أنّ التعديل الذاتي مرتبط بمدى وعي الفاعليين بأهمية الالتزام بإيطيقا العمل والنضال وبرهانات المشروع الامبريالي وما يترتب عن الأنجزة من نتائج لعلّ أخطرها فرض علاقات القوّة والهيمنة وديمومة التبعية، وهو ما يفرض اتّخاذ مواقف مشرفة في السياقات المفصلية وإعادة التفاوض حول أشكال العمل المشترك بين المجتمع المدني والهيئات والمنظمات العالمية. كما أنّ التمسّك بالتعديل الذاتي يُعدّ من الممارسات الفضلى التي تتمسّك بها منظمات وهيئات ومؤسسات كثيرة للوقوف بوجه الرقابة المشدّدة والتدخّل المستمرّ في عملها مما يترتب عنه حرمانها من استقلاليتها في صنع قراراتها.
إنّ تقاعس مختلف مكونات المجتمع المدني في ممارسة التعديل الذاتي الذي يعتبر آلية مركزية في تحديد نمط العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني من جهة، وبينه والجهات الممولة من جهة أخرى قد أفضى إلى حدوث تجاوزات وفوضى في التدبير وإضعاف المجتمع المدني في حدّ ذاته والتشكيك في شرعية وجوده. وعندما يفرّط الفاعلون في فرصة التدريب على التعديل الذاتي يفتح الباب على مصراعيه للتعديل الحكومي.