حديث الأنا: في الفعل

مئات الألاف من الخرفان ذبحت يوم العيد. أكل التونسيون أيّام العيد أطنانا من اللحم. هنيئا للتونسيين بالعيد وهنيئا لهم بما أكلوا... أنا لا أذبح يوم العيد. لا تحبّ زوجتي وأبنائي الذبح. أنا وكلّ عائلتي لا نحبّ ما كان في أضحيّة العيد من هرج. ليست القضيّة اقتصاديّة بل هي نظرة إلى الحياة، موقف وسلوك.

أنا ومن معي لا نرى نفعا في الأضحيّة. تقول خديجة ابنتي «يجب تقديم صدقة لمن خذله الزمن...وهذا أفضل»... طبعا، الناس أحرار ولهم الحقّ أن يفعلوا ما شاؤوا وأن يذبحوا. هم أحرار في ما يأتون من صنع بشرط أن لا يلحقني أذى أو ضرر...

اشترى جاري، الساكن أمامي، خاروفا وكذلك هو يصنع كلّ سنة. لا شأن لي بما يصنع جاري. ما يؤسفني هو أنّ خروفه يبيت الليل كلّه «يبعبع». الليل طوله، تحت رأسي، يبكي الخروف حظّه، يدعو إخوته، أمّه. لا أدري لماذا هو دوما «يبعبع»... منذ أيّام وأنا أنام على «بعبعة» الخروف حتّى مطلع الفجر. في مطلع الفجر، يدوّي في السماء آذان المؤذّن فتزلزل الأرض زلزالها. عندها، أنهض وأنتهي من النوم رغم الظلمة...

علاوة على ما يأتي خروف جاري من «بعبعة»، له رائحة نتنة... منذ أن حلّ بيننا، قيّد الخروف في زاوية وفيها يأكل ويبول ويبعر. عمّت الأرجاء رائحة البول والتبن والبعر. كلّ ليلة وكلّما مشيت إلى النوم تهزّني رائحة البول المنتشر ويلزمني ساعة للتعوّد... محقّ ابن تيميّة لمّا أفتى وكتب أنّ بول الخرفان ناقض للوضوء. رحم الله ابن تيميّة وقد كتب في ما ينفع وفي ما لا ينفع...

قبيل العيد، كنت في المغازة العامّة في أريانة أشتري ما يلزم. في ركن، كنت وعجوز في مثل عمري نشتري تفّاحا أحمر، بخس الثمن. سألتها ان كان التفّاح لذيذا فقالت «إنّها صائمة». سألتها «لم هي صائمة وقد انتهى شهر الصيام منذ زمن؟ «قالت «إنّ في الصيام ثوابا وتقرّبا». سألتها «أين يكمن الثواب وهل ترى في ما تأتي من صوم نفعا لها أو لغيرها من البشر؟» قالت «لا» فأردفت متعجّبا «كيف يأتي الإنسان فعلا لا يرى فيه نفعا ولا فائدة؟ وكيف يمكن لهذا الفعل (اللانافع) للبشر أن يرتضيه الله ويتقبّله؟» سكتت عجوز التفّاح وسكتّ وذهب كلّ إلى شأنه.

ما الفائدة من تضحيّة العيد؟ هي سنّة مؤكّدة يقول الشرع ويردّد الأيمّة. أعلم ذلك ولكن أظل أسأل هل من فائدة تحصل. هل من نفع، هل من كسب لهم يتحقّق؟ أنا لا أرى في الأضحيّة غاية تنفع أمّة المسلمين والمسلمون اليوم في جهل، في فقر، في تخلّف أزرق.في ما أرى، الكثير يذبح يوم العيد وبعضهم ببعض اللحم يتصدّق. لكن، هل الفقراء في حاجة إلى اللحم وهم في سوء عيش، في ضنك؟ من الأولى أن نمدّهم بكرّاس وقلم، بأدويّة، بحذاء لأرجل حافية... في الحياة أولويّات وليس اللحم أبدا أولويّة. أنا لا أذبح ولسوف أعطي مالا للفقراء يشترون به ما شاؤوا، يسدّون به الرمق...

طوال العشيّة، بقيت أذكر عجوز التفّاح. تعود كلماتها في رأسي صدى يتكرّر: «في الصيام ثواب وتقرّب». أنا لا أرى في الصيام ثوابا ولا تقرّبا ولا في أضحيّة العيد نفعا يذكر. كنت في نظر، في بعض حيرة. شدّني السؤال: هل أنا محقّ في ما أرى أم صوم العجوز تقرّبا هو الأصوب؟ في نظري، كلّ فعل لا ينفع الأرض والبشر هو فعل بلا معنى، لا يصلح. العمل الصالح يعطي ثمرا، فيه نفع... غيري من الناس، يرى الفعل الحسن ذاك الذي فيه ثواب وتقرّب. عجوز التفّاح تحسب الفعل بما كان له من أثر في السماء ومن تقرّب. عندي أنا، الفعل دنيويّ أصلا وبحسب نفعه يرتقي أو ينسخ. أختلف وعجوز التفّاح. بيني وبينها تباين في الفهم، في النظم...قد أكون أنا محقّا في ما أرى وفي ما أفعل. قد تكون عجوز التفّاح محقّة في ما ترى وفي ما تفعل... لكنّ وحتّى لا يحصل تشتّت، يجب أن نقارب الفعل بالفعل، أن ننظر ونقارن حتّى نرى ونتبيّن...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115