وجهة نظر: الحرب على الإرهاب بين التوحش والتحضر

لقد كتب الروائي الفرنسي المعروف والمحارب في سلاح الجو الفرنسي الذي شارك ببسالة في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء ضد ألمانيا النازية في رواية توليب جملة ظلت تحير وتربك الكثير من قرائه : «عندما تُربح حرب ما فإن المهزومين هم الذين حُرّروا لا المنتصرين».

فالمنهزمون حرّروا من أوهامهم ومن جنون العظمة ومن الاعتقاد أنهم خيرة ما يوجد في العالم أما المنتصرون فسيظلون سجناء رؤيتهم لأنفسهم على أنهم أبطال لا لأنهم كسبوا المعركة فقط وإنما لأنهم تجسيد للخير وللحق وستظل هكذا نشوة الانتصار تدفعهم إلى تجريد عدوّهم من صفة الإنسانية وينسون أنه رغم صفته كعدو يظل يحافظ على صفة الإنسان مهما بلغ به التوحش من مدى وبهذا أيضا يغفل المنتصرون عما في ذواتهم من سيئات وعيوب. هذه الخواطر لغاري قفزت إلى ذهني وأنا أتابع السجال الذي أثارته الصور التي التقطها عناصر من جنودنا لأنفسهم إلى جانب إرهابيين قتلوا على التوّ ولم ترفع جثثهم بعد. ونفس المطبّ الذي شخصّه غاري وحذّر منه نراه يتكرر هنا فنشوة الانتصار التي تجعل المنتصر جندي، عنصر من الحرس الوطني أو من فرقة مقاومة الإرهاب ينسى العقيدة الأمنية التي

تكوّن على أساسها والقيم المدنية التي لقّن إياها وينقاد إلى التلذذ بالقتل والهمجية والسادية وينسى أن العدوّ الذي قُتل لم يعد عدوا بعد مماته وأصبح جثمانا لا يجوز مهما كانت درجة إجرام صاحبه أو وحشيته أن يُمثّل به أو أن تنقل صورته إذ يحتفظ رغم ما أتاه من أفعال بكرامته ككائن بشري فارق الحياة. ولئن كانت هذه القيم قد تكرست في الجيوش الحديثة التي تشكلت وفق النموذج النبلويوني الذي جعل من الانضباط والعقلانية والسيطرة على أهواء المحارب ونزواته والتحكم في استخدام القوة والفاعلية في تحقيق الأهداف المرجوة أساس السلوك العسكري للجيوش الحديثة فإن الأمر يكتسي أهمية خاصة عندما يتعلق الأمر بحرب تخوضها ديمقراطية ناشئة مثل تونس تتطلع إلى ان تعزز موقعها داخل الأمم المتحضرة والحرة ضدّ أعداء هم في معظمهم داخليون من أبناء البلد مسنودون ومدعومون من الخارج. فالإرهابيون الذي يهاجمون قوات الأمن ويعتدون على مؤسسات الدولة هم من بني جلدتنا اعتنقوا عقيدة ورؤية دينية متطرفة وجذرية جعلتهم في مواجهة مع شعبهم ولهم داخل البلاد لا أتباع ومريدين فقط وإنما كذلك أهالي وعائلات لا توافق أبناءها صنيعهم وتتألم لما حدث وتقف مصدومة وعاجزة عن ثنيهم عما اعتزموا القيام به لكن مع ذلك تظل لها مشاعر نحوهم لا يمكن إلا تفهمها فهؤلاء فلذات أكبادهم كما يقال.

و لا يجب أن تغرّنا النجاحات الأخيرة التي حققتها قوات الأمن وأن ننسى أننا في هذه الحرب نحارب في الحقيقة أنفسنا لأن الأمر يتعلّق بالعمل على استئصال داء استحكم بمجتمعنا بأقل الإضرار والتكاليف الممكنة وبأقل الآلام لأنفسنا. فكل المشكل يكمن في التالي: كيف يمكن لديمقراطية ناشئة لم يشتد عودها بعد ولم ترسّخ مؤسساتها الدستورية بعد أن تخوض الحرب وأن تواجه الإرهاب الذي جعل من التوحش طريقته في العمل دون أن تفقد روحها الإنسانية وقيم التمدن التي هي جوهرها أو أن تنجر إلى مربع العنف الأعمى والتوحش والهمجية التي يريدها الإرهاب أن تنحدر إليها لتتساوى معه؟ لقد نقلت لنا التلفزات التونسية أنباء مشرفة عن بطولات جنودنا وعناصر الحرس الوطني وفرق مقاومة الإرهاب حريّ بنا أن نعتز بها لكنها نقلت لنا أيضا مشاهد كان يفترض أن لا تبث وأن لا نراها. لقد رأينا الحرب على المباشر جنود وشرطة وحرس تطلق النار وتقفز فرحا وتصرخ منتشية عندما تصيب أحد الإرهابيين في مقتل وتجري من مكان إلى آخر والكاميرات ترصد حركاتهم ومدنيين ملتحمين بهم ويقفون أحيانا على مقربة منهم يهتفون بحياة الوطن ويصرخون ويهللون. نتساءل ماذا سيكون موقف أهالي هؤلاء الجنود لو أصيب ابنهم برصاصة غادرة في تلك اللحظة ونقل المشهد في إحدى القنوات؟ لماذا لم تمنع وزارتا الداخلية والدفاع الصحفيين والأهالي من دخول منطقة المواجهات؟ إلى متى سنظل ندير الحرب على الإرهاب بأسلوب تعوزه الحرفية ويقترب كثيرا من عمل الهواة؟

وإن ما ينبغي التأكيد عليه أن تونس الجمهورية الثانية التي تخوض اليوم الحرب على الإرهاب قد قطعت خطوات هامة في طريق الانتقال الديمقراطي و مضت قدما في سبيل إرساء منظومة حقوق الإنسان وتتطلع إلى بناء دولة قانون تواصل المسار الذي بدأه الدستور في ضمان الحقوق الفردية والعامة وإلى تأهيل مؤسساتها الأمنية والعسكرية وفق هذا المقتضى. تونس هذه لا يمكنها أن تخوض هذه الحرب بالأساليب التي خاضها ضدّه النظام السابق إذ هي مدعوّة لإيجاد المعادلة الصعبة بين حماية حقوق الإنسان وتكريس حكم القانون وسيادته ومقاومة حازمة للإرهاب وضمان أمنها. هذه المعادلة العسيرة لكنها غير المستحيلة، هي نفس تلك المعادلة الصعبة التي تجتهد كل الديمقراطيات الراسخة والقديمة في تحقيقها دون أن تنجح دوما نجاحا تاما ونهائيا، لم تكن تشغل النظام السابق. فأساليب القمع الشامل والخلط بين المذنب والبريء والزج بالناس في السجون بتهمة الإرهاب دون الدليل القاطع وتوظيف القضاء لهذا الغرض والمحاكمات على مجرد الشبهة أو القرابة الشخصية واعتماد التعذيب لاقتلاع الاعترافات والتضييق على حقوق الدفاع لم تكن دوما ناجعة ولم تفض إلى

استئصال شأفة الإرهاب كما يزعم دعاة الحلول الأمنية بل إنه انكفأ على نفسه وتخفى ثم عاد بقوة عندما توفر مناخ الحرية بعد الثورة. لذلك لا نعتقد أن العودة القوية لأتباع النظام السابق الذين تحوّلوا اليوم إلى محللين سياسيين يؤثثون البرامج النقاشية في الإذاعات والتلفزات ينصحون الحكومة أن تسقط من اعتبارها الالتزام باحترام حقوق الإنسان كما نص على ذلك الدستور الجديد للجمهورية التونسية الثانية وتعهدات تونس الدولية لا يمكن أن يساعد البلاد اليوم على المقاومة الفعلية للإرهاب. فهؤلاء من صحفيين وإعلاميين وجامعيين ومحامين ومسؤولين سابقين كانوا مستفيدين من النظام السابق وارتبطت مصالحهم به يكنّون عداءا مستحكما للديمقراطية ولحقوق الإنسان ولا ينظرون بعين الرضا إلى ما تحقق إلى الآن في تونس. لذلك نراهم يكررون، كلما ظهروا في المنابر الإعلامية، نفس الأسطوانة المشروخة التي طالما أعادوها على مسامعنا في العهد السابق مفادها أنه ينبغي أن نختار بين الديمقراطية والأمن وأن الجمع بينهما مستعص على البلدان التي هي في وضع تونس وأنه لا مجال لاحترام حقوق الإنسان حينما يكون استقرار البلاد وأمنها موضع تهديد.

منير الكشو (أستاذ تعليم عال في جامعة تونس) 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115